تشهد المنطقة العربية وجوارها الإقليمي تأزّماً شديداً نتيجة تراكم القضايا العالقة من الماضي القريب، وتفاعلات ممّا حدث ويحدث في الحاضر من انتفاضاتٍ شعبية عربية. فقبل العام الجاري، كانت منطقة الشرق الأوسط تعاني من تداعيات الحرب الأميركية على العراق والحروب الإسرائيلية على لبنان وغزّة، ثمّ من سخونة الملف النووي الإيراني والدور الإيراني عموماً في المنطقة، ثمّ من القرار الدولي بتشريع تقسيم السودان وفصل جنوبه عن شماله. وكانت هذه القضايا، وما زالت، مصدر توتّرٍ مستمر بين بلدان المنطقة نفسها. أيضاً، غاب العام الماضي ولم تغب معه قضية المستوطنات الإسرائيلية وتعثّر استئناف المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية. وجاء العام الحالي وما فيه من تغيّرات حدثت في أنظمة الحكم بتونس ومصر وليبيا، ومن حراك شعبي مجهول المستقبل في عدد من الدول، ليضيف من ثقل سلّة الهموم والقضايا التي تنهك ظهر الأمَّة العربية، وهي التي تعاني على مدى عقودٍ من الزمن من وهنٍ شديد في أرجاء جسمها ورأسها. أيضاً، يشهد هذا العام تراجعاً كبيراً في الاقتصاد العالمي، ودخول الولاياتالمتحدة ودول أوروبا في حالةٍ من الكساد الاقتصادي، دفع شعوب هذه البلدان إلى استخدام ضغط الشارع والاعتصامات ضدّ جشع وفساد الحكّام والمصارف والشركات الكبرى. وعادةً، حينما تتأزّم الأوضاع الاقتصادية في الغرب، يتّجه نظر حكّامه إلى المنطقة العربية وكأنّها خزّان مالي احتياطي يمكن الاعتماد عليه لحلّ مشاكل الغرب المالية، ولأنّ الثروة النفطية العربية تؤثّر بشكلٍ كبير على مجرى الاقتصاد العالمي، خاصّةً لأنّ أسعار النفط محدّدة بالدولار الأميركي. كذلك، وظّفت الولاياتالمتحدة الأميركية، خلال القرن الماضي، حالات الحروب الباردة والساخنة من أجل تحسين الاقتصاد الأميركي في أكثر من زمانٍ ومكان. وقد كانت هناك مراهنات لدى قوى التدخّل الأجنبي بأنّ المتغيّرات التي تحدث الآن في المنطقة العربية ستقلب فيها الأولويّات، وستهمّش القضايا الأخرى العالقة أو ستدفع ببعضها إلى الحلول، وستجعل شعوب المنطقة ترى همومها الداخلية فقط، بل وستجعل هذه الشعوب تراهن على القوى الأجنبية لمساعدتها في حلّ مشاكلها المحلية. ما حدث حتّى الآن هو نجاح دول حلف "الناتو" في "إنجازات" الهدم، لا في تحقيق البديل الأفضل والأنسب لدول الحلف، تماماً كما كان مصير الحروب الأمريكية والإسرائيلية في العراق ولبنان وغزّة في ظلّ الإدارة الأميركية السابقة. فثورة "25 يناير" في مصر مثلاً لم تتوقّف عند الحدود المرغوب بها أطلسياً بل تجاوزت قضية التغيير الداخلي إلى طرح مصير معاهدة "كامب ديفيد" وإلى اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة. ولم تُحسَم أمور المستقبل بعد في جميع البلدان العربية الأخرى التي شهدت أو تشهد انتفاضاتٍ شعبية. ويبدو كمحصّلة لكلّ ذلك، أنّ حرباً إقليمية هي المخرج الوحيد أمام القوى الدولية المعنيّة في صراعات وثروات المنطقة، من أجل الخروج من المأزق الذي وقعت فيه كلّ الأطراف والقضايا. فربّما تجري المراهنة على أنّ حرباً من هذا النوع ستكون، إضافةً إلى فوائدها الغربية على الصعيدين المالي والاقتصادي، مفتاحاً لتسوياتٍ سياسية مطلوبة للملفّين الإيراني والفلسطيني ولفرض وقائع جديدة ينتج عنها "شرق أوسطي جديد". الأمَّة العربية الآن، هي في لحظةٍ زمنية كتلك التي تفصل الليل عن النهار، أو العكس. فما يحدث فيها قد يكون مطلع فجرٍ جديد ونهارٍ واعد بنور شمس ساطعة، أو قد يكون بداية ليلٍ تلبس فيه الأمَّة ثوب الظلام بعد معاناةٍ طويلة من يوم الظالمين.