تعرفت قبل عشرين سنة خلال مهمة حكومية بطرابلس على الشاعر والكاتب الليبي "محمد خليفة التليسي"، الذي رحل مؤخراً عن عالمنا. بدا لي الشيخ المهيب الواسع الثقافة غريباً على جماهيرية القذافي وأجوائها الاستعراضية العجيبة. يمثل التليسي الذي عمل وزيراً للثقافة في العهد الملكي نموذجاً للنخبة الليبية التي انبثقت عن حركة التحرير ودرست في الجامعات الغربية وشاركت في مجهود بناء الدولة الحديثة، قبل أن تضطر إما للمنافي القسرية في الخارج أو إلى اعتماد مسلك التقية ومهادنة النظام الحاكم منذ انقلاب 1969. ومن الصنف الأول وزير الخارجية الأسبق "منصور الكيخيا"، الذي اختطفته مخابرات القذافي في القاهرة عام 1993، ويعتقد أنها أعدمته لاحقاً. ولا شك أن المشكل الكبير الذي يواجه الثوار الليبيين هو حالة الفراغ السياسي الذي نجم عن عقود أربعة متواصلة من التدمير المنظم للنخب الليبية. فبالمقارنة مع الساحات العربية الأخرى التي شهدت موجة التغيير الراهنة، تفتقد الساحة الليبية لمجتمع مدني نشط وفاعل، كما تفتقد لإدارة بيروقراطية ناجعة، ولمؤسسة عسكرية متماسكة ومنسجمة. وعلى الرغم من نقاط التشابه الجلية بين الحالتين الليبية واليمنية، إلا أن التجربة الديمقراطية المحدودة التي عرفها اليمن بعد الوحدة أفرزت معادلة سياسية نشطة تمحورت حول أحزاب عقدية وآيديولوجية (فضلاً عن حزب المؤتمر الشعبي الحاكم) وتنظيمات أهلية تداخلت مع المكون القبلي ذاته.