كلما مررت على ذلك الزقاق ،أو تذكرته .. أمدد دماغي كقمر، راقصاً بمجون حول نفسي، وأغني بصوت "الحجي" ليسرع بي الوقت وأحجب عني الأفق ، كي تجتاحني كلماته البلاغية تلقائيا ممزوجا بصوت جميل وعذب وهو يرددها على العجوز ، الجالس على عتبة داره ،واضعا في فمه الغليون ،وبين رجليه أكياس الدقيق الفارغة حيث يقوم بتنظيفها ومن ثم يبيعها في اليوم التالي ..ولأننا نحن أولاد الجيران يحلو لنا أن نلعب في ذلك الزقاق كرة القدم وغيرها من الألعاب..فإن صاحب الغليون العجوز يعكر لهونا وطفولتنا ، بعدم اللعب في ذلك الزقاق .. كما ينهال على مسامعنا بسيل من الشتائم ، كي نبتعد عنه ولا نعكر له كيف الغليون ودخانه المتطاير من فمه ، أو ان نمزق أكياس الدقيق مصدر رزقه ..وبدون مقدمات اتجه صوب العجوز ذلك الشاب ، خفيف الظل والوقوف أمامه ، كي يسمعه أهزوجة ارتجالية عليه ، يقول فيها: يا بو الغليون لو تسمح قوم قلبي ملهوف من ذا الغليون لو تسمح قوم يا بو الغليون من ذا الغليون قلبي ملهوف هكذا كنا نغرس ضحكاتنا الطفولية نحن أولاد الجيران ونردد الأهزوجة الجميلة من ذلك الشاب الضحوك .. أشعر بالفرح حين أفارق ذهني فأنا لا أتشابه معه في النكتة وحركاته المضحكة إلا في العفوية وهو الشيء الحسن. فقد أصبحت في دائرة الانتظار ..لأي فرح قادم أو نكتة مستخدمة .. لأنني بدأت أميل إلى البرود والأسرار منذ أن تركت شغب طفولتي في حارتنا القديمة مع أولاد الجيران . آآآه يا زمن .. رحل " مرحه وفرحه " منذ خمسة وثلاثين عاما تقريبا..أي منذ إن خطفه الموت في ريعان شبابه " يرحمه الله ". أنه حجي " قاسم " شاب ضحوك وموهوب في كرة القدم ..من عائلة كريمة... كان شابا يملأ الابتسامة العريضة على وجوهنا من حركاته البهلوانية في الألعاب وطرائفه والنكتة السريعة، هناك في المدينةالمنورة ، وبالتحديد بحارتنا الشعبية، والقريبة من سور بقيع الغرقد "شرقاً ".. يحرك الألفة الاجتماعية بين الشباب والأطفال.. بطبعه في المرح والمزاح .. الكل يستمع إلى كلامه ، صغارا وشبانا .. نساءً ورجالا .. يجمع فيها الكلمات البلاغية من السجع .. حتى وهو يمارس فنه الكوري..حجي " قاسم " صاحب بشرة سمراء .. طويل القائمة .. لكن الملفت فيه أسنانه البارزة ووجهه الضحوك دائماً. رحل " حجي قاسم " ولم تكف أفواهنا المضحكة عن قلبه الملهوف وصاحب الغليون .فكلما نكبر في أعمارنا .. نكرر في جلساتنا المواقف الجميلة والطرائف التي مضت ، مثل الياسمين نتلو للماء أفراحنا وأتراحنا كي لا تصدأ، ونذهب بالمطر وندسه في عيني الجدات. فأحزاننا وأفراحنا تكبر مع تقدم السن ..نفرح بمجي مولود.. أو عرس شاب .. ونحزن بإصابة امراض العصر .. من السكري والضغط وما شابه ذلك.. حياة بلا أحزان ..طعمها كطعم زيت الخروع.. وحياة بلا ذكريات الزمن الجميل تقحمنا في هموم ومشاكل حاضرنا.ويا أمان الخائفين.