«العولمة بشكلها الحالي تهدد دولاً لا حول لها ولا قوة وهي تعرض للخطر ملايين الأشخاص». والكلام ليس لمخلوق تراثي متشدد-ديني أو أممي أو قومي، بل هو لرئيس وزراء جامايكا الأسبق باترسون. ومناسبة الكلام افتتاح مؤتمر الدول الخمس عشرة في بدايات العقد الماضي . حيث استقبل الحضور كلامه بالتصفيق وقوفاً. ما الذي قاله باترسون فاستدعى هذا الحماس من حضور المؤتمر؟ ومن هم هؤلاء؟. في كلمة افتتاح المؤتمر قال باترسون ما يأتي: إن الفرص الهائلة التي تحملها العولمة تقترن بمخاطر تهدد بقاء اقتصاد البلد ذاته. إذا كان بلداً من بلدان العالم النامي. لذلك يجب إبطاء إيقاع واتجاه العولمة الراهنين، لأنهما يحملان معهما الخراب. أما عن صندوق النقد الدولي، فقال باترسون: إن توصيات الصندوق برفع أسعار الفائدة في الدول المضطربة اقتصادياً، يؤدي إلى الكساد (الناجم عن تجميد الأموال للحصول على الفوائد المرتفعة) وبعده الإفلاس. وفي المؤتمر نفسه يقول مهاتير محمد (رئيس وزراء ماليزيا السابق: إن الجهود الخارجية الهادفة لحل الأزمة المالية العالمية، بسبب الفقر لملايين الأشخاص، وتحرم الدول النامية (ومنها النمور الآسيوية) من استقلالها. أهمية هذا الكلام وغيره مما قيل في هذا المؤتمر، تأتي من كون الدول المشاركة فيه قد اكتوت بنار العولمة، ومعها نار الصندوق الدولي الممهد لها، وخرجت من تجربتها مكتوية مفلسة، تجد صعوبة في الحفاظ على استقلالها. خصوصاً وإن الإفلاس، والفقر الذي يصاحبه، يفجر التناقضات الداخلية في هذه البلدان. وهي تناقضات يخمدها الرخاء ويكبتها. ولعل التصريح الأخطر في المؤتمر هو تصريح مهاتير محمد: إن النمور الآسيوية العظيمة، لم يعد لها وجود. فقد صغرت هذه الدول وتراجعت حتى باتت تطلب المعونات، فأصبحت ظلالاً لأنفسها(قبل إفلاسها) وأطيح بحكوماتها، وتقوضت أنظمتها السياسية بشدة، حتى باتت عاجزة عن الحكم الفعلي لبلدانها. فقد بات على هذه الدول أن تقبل التدخل والتوجيه الأجنبي لشؤونها الداخلية. تابع مهاتير قائلاً: «ربما نجد أن استقلالنا الذي حصلنا عليه أخيراً قد تقوض». هذه عينات من عبر وتجارب عرضت في قمة منتجع مونتيجو باي بجامايكا. وهي تكاد تجمع على المزاوجة بين العولمة الراهنة، وبين شركات توظيف الأموال. فالإثنان يعطيان مكاسب كبيرة في البداية ويذهبان بكل شيء في النهاية.لقد تبدت مشاعر الندم، والتراجع عن الخطوات المتخذة كافة على طريق العولمة الاقتصادية، لدى ممثلي الدول 17، وغالبيتها ممثلة على صعيد رؤساء الوزارات، وبعضها على مستوى الرؤساء. وبذلك تكون هذه العولمة قد فقدت عيناتها التي استخدمتها للدعاية، بل أن هذه العينات تتحول إلى فضائح، وهي قد بدأت تعطي مفعولاً دعائياً مضاداً لهذه العولمة.ولكن ماذا عن حتمية العولمة؟ لقد بات الجميع يعلم أن العولمة الحتمية أو المقبلة حتماً، هي غير العولمة التي يشكو منها حضور هذا المؤتمر. فالعولمة الحتمية لا تقبل أن تكون المنظمات الدولية ومؤسساتها والتجمعات العالمية وفروعها، تحت هيمنة دولة واحدة هي الولاياتالمتحدة. وهذه الهيمنة جعلت كثيرين يساوون بين العولمة (بنموذجها الراهن) وبين الأمركة وهم يرفضون حكماً عالميتها. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر وهو هل تقبل الولاياتالمتحدة بتمرير العولمة وفق نموذج مخالف لنموذجها الأميركي الراهن؟ والجواب هو لا قاطعة، لأن النموذج المطروح راهناً هو الوحيد المناسب للمصالح الأميركية. لذلك علينا أن نتوقع معاداة الولايات للعولمة وتعويقها لها، إذا هي اتخذت مساراً غير المسار الراهن الذي حددته الولاياتالمتحدة على قياس مصالحها. ومن يعرف نفوذ وسيطرة هذه الدولة في الراهن العالمي، يدرك بأن مقولة حتمية العولمة هي في طريقها للسقوط. والولاياتالمتحدة هي التي ستأخذ ذلك على عاتقها. هذا الطرح سيبدو غريباً لكثيرين. لكن هذه الغرابة قد تبددت، لو راجعنا معاً موقف الولاياتالمتحدة من الأممالمتحدة والمنظمات التابعة لها، حيث تمتنع هذه الدولة عن دفع حصتها في دعم المنظمة وفروعها بما يوقعها في العجز وفي التبعية الاقتصادية. وهذه الدولة باتت الوحيدة القادرة فعلياً على شل أي قرار تتخذه هذه المنظمة عن طريق حقها في النقض (الفيتو) الذي لا تزال دول أخرى تملكه لكن نظرياً فقط. كما أن هذه الدولة تجاوزت كل قوانين الأممالمتحدة في المناسبات المختلفة. فهي حيناً تستند إلى حلف الأطلسي (بصفته يضم النخبة العالمية وهي على رأسها) وطوراً تحتج بالدفاع عن النفس، وعن المصالح فتتجاوز كل مبادئ المنظمة الدولية دون أن يجرؤ أحد على محاسبتها ومساءلتها. وهكذا فإن الاستهتار الأميركي بالأممالمتحدة قد تجاوز الاستهتار الألماني بعصبة الأمم. ولم يعد هنالك ما يمنع أن تلقى الأولى مصير الثانية. وهذا الواقع يعكس رفض الولاياتالمتحدة القاطع للعولمة، التي تساير مبادئ الأممالمتحدة في تأمين حقوق الدول واحترام سيادتها وشعوبها ومصير هذه الشعوب وتراثها الإنساني. فإذا ما فشل تطبيق النموذج العولمي-الأميركي، فإن الولاياتالمتحدة سترفض وستنسف محاولات العولمة، التي تعتمد الأنسنة (وهي التي يقال عنها بأنها حتمية) بدلاً من الأمركة. ولكن ما هي المسافة الفاصلة بين الأمركة والأنسنة؟ إن هذه المسافة غائمة وضبابية، ليس في ذهن الإنسان العادي فقط، بل هي تكون كذلك حتى في أذهان الاستراتيجيين والمستقبليين الأميركيين! ويمكننا القول بأن الأميركي (بولوني-يهودي الأصل) نعوم تشومسكي، هو أحد أهم المتنورين الذين يحسنون توضيح هذه المسافة، وفضح محطات اختلافها الأساسية. ولعل الخطوة الأولى على طريق توضيح هذه المسافة، ومعها الفارق بين الأمركة والأنسنة، هي التعرف إلى فوارق تطبيق المفاهيم الليبرالية داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، فهذا البلد يحاول وبأمانة أن يحول المبادئ الليبرالية إلى نموذج إنساني مثالي، لما يمكن تسميته بالأنسنة. فالبلد ينفق المليارات لتحصين أمنه من احتمالات إرهاب داخلي. لكنه في المقابل لا يصدر قانون منع ملكية الأسلحة النارية وبيعها (وهذا يمكنه أن يحد بصورة عملية من احتمالات الإرهاب والجريمة عموماً). وهذا التقديس للحريات ينقلب إلى إلحاد. عندما يكون الإرهاب خارجياً، بحيث يصل الرد عليه لغاية انتهاك حرمة دول أخرى، لغاية اعتقال رئيس دولة (نورييغا) بعملية كوماندوس، وتصديره إلى الولاياتالمتحدة لمحاكمته! وعلى الصعيد الفردي نجد أن أي عربي (أو غيره من الشعوب المتهمة أميركا بالإرهاب) يعيش داخل الولاياتالمتحدة، يستطيع أن ينعم بقوانينها الليبرالية، فهو يستطيع أن يصدر جريدة أو مجلة سياسية (غالباً ما يعجز عن إصدارها في بلده) وأن يضمنها آراءه الصريحة في إطار واسع ورحب من الحرية. لكن نشر الآراء ذاتها خارج البلد يجعل المخابرات الأميركية تستنفر وتتحرى وتراقب وتسجل، وربما تحول حياة صاحب الآراء إلى صعبة. لو أنت سألت أحد المنظرين الأميركيين عن أسباب فشل تطبيقات العولمة خارج الولاياتالمتحدة (الدول النامية تحديداً) فإنه لن يتردد في القول بأن العيب ليس بمبادئ نظام السوق والاقتصاد العولمي، لكن العيب والخطأ هو في الفساد، الذي تعانيه هذه الدول. بحيث تذهب القروض وخيرات الاستثمار العولمي إلى جيوب بعض المسؤولين، ويقع مواطنهم العادي ضحية العجز والمديونية والإفلاس. وإذا أنت أجبته بأن هذا الفساد قديم في هذه الدول، وهي كانت تتدبر أمورها في ظل أنظمتها الاقتصادية السابقة، من دون أن تصل إلى حدود الإفلاس، لذلك كفقد كان الأخرى بها أن تتمسك بنظامها الأساسي، وأن تبتعد عن خوض مغامرة العولمة! عندها ستجد أجوبة ملتوية تفهم منها أن التمسك بالقديم يتعارض مع المصالح الأميركية! وهنا تبدأ الصورة تتوضح فالبراغماتية الأميركية(سياسة المنفعة والمصالح) تريد أن تسوق أدويتها وتحقق أرباحاً من علاجاتها، حتى ولو كانت غير مناسبة، وذات آثار جانبية قاتلة. بل إن ذلك يحدث فعلاً على الصعيد الصدلاني (وليس على سبيل المثال) حيث حققت الشركات الأميركية أرباحاً تجاوزت مليارات الدولارات من أدوية ضارة ومؤذية (مضاد اكتئاب يشجع على الانتخار وآخر يتسبب في مرض دموي، ودواء مضاد للسرطان تبيّن أنه يزيد انتشاره ومضاد للفصام يتسبب بعد أشهر قليلة بانتكاسات فصامية خطرة ...إلخ). وهكذا فإن الأدوية السياسية الأميركية موضوعة للتسويق في بلدان لا تتحمل مثل هذه العلاجات القاتلة بالنسبة لها، لكنها المصالح الأميركية. وفي المقابل نجد أن الولاياتالمتحدة قد تمكنت من إيجاد القواعد والسبل لتقنين الرأي العام بداخلها، وتوجيهه في الاتجاه المناسب لمصالحها. والجمهور لا يجرؤ على مخالفة هذه القواعد خوفاً من فقدانه للرخاء الذي يعيشه، أو من تدني نسبة هذا الرخاء. وهكذا يتقبل الجمهور الأميركي إيحاءات الحكومة الفيدرالية من دون مناقشة. وبهذا تمكنت هذه الحكومة من حصر الرئاسة الأميركية بالبيض البروتستانت (باستثناء حينيدي الكاثوليكي-الذي اغتيل) وحصرت الأقليات السوداء والآسيوية والأميركية اللاتينية في أحياء وغيتوات خاصة لها (من دون أن تصدر القوانين بهذا الخصوص-فالإيحاءات كافية). هذا داخل الولاياتالمتحدة، أما خارجها فإن هذه الدولة مهتمة بحقوق الأقليات العرقية والدينية! وهي تتساءل عن حقوق المسلمين في بعض الدول، بل إن مصالحها تجعلها تعد لتفجير هذه المشكلات بشكل صراعات أو حتى حروب! وهنا تتضح لنا المسافة بين الأمركة والأنسنة. ولمن يريد التعمق أكثر في معرفة هذه المسافة، فإننا نرده إلى تشومسكي، الذي يقدم مقارنات فاضحة بين سلوك الولاياتالمتحدة الفعلي، وبين تسترها وراء توجيه التهم للآخرين، وتجاهل أخطائها وتوريتها. وهكذا فإن الاستراتيجيين الأميركيين يقعون في أخطاء قاتلة بسبب هذا التناقض (الفصامي) بين الداخل والخارج الأميركيين. وفي مثل هذا الخطأ وقع هنتنغتون عندما طرح الإسلام والكونفوشيوسية كأعداء حضاريين للولايات المتحدة. إذ انطلق هنتنغتون مما يمكننا تسميته باختبار العولمة، ومناداته أن من يقبل عولمة النموذج الأميركي، يكون صديقاً ومن يرفضه يكون عدواً. لكنه تنبه متأخراً إلى أن صداقة القابلين بالنموذج الأميركي ليست دائمة أو ثابتة، بل يمكنها أن تتحول إلى عداء، بدأت تباشيره تظهر قبل القمة المشار إليها أعلاه. كما يلاحظ أن داعمي النموذج الأميركي (اليابان وأوستراليا وأوروبا) لا يقومون بهذا الدعم عن طيب خاطر، لأنه يعاكس مصالحهم. وهكذا فإن من السذاجة بمكان الالتهاء بالإسلام وترشيحه للعداوة، لأنه يرفض الدخول في اللعبة بسبب تعاليمه. وهو لا يذهب إلى أبعد من طرح البنوك الإسلامية بديلة للشركات عابرة القارات (وهو طرح محلي غير قابل للتصدير). لذلك وجدنا صاحب فرضية صدام الحضارات، يلتف على نفسه، ويدعو إلى ضرورة تحديد وتعريف دقيق للمصالح الأميركية ولاتجاهاتها، بل وجد هو أن المصالح الأميركية تتآكل بسبب العجز عن تحديد العدو، كونه صديقاً راهناً وحتى إشعار آخر. خلاصة القول أن ملامح فشل تصدير النموذج الأميركي بدأت ترتسم بصورة واضحة. وسقوط النمور الأسيوية سوف يؤدي إلى تباطؤ وتلكؤ العديد من الدول في خوض تجارب الخصخصة وتطبيق نظام السوق. وربما بدأت هذه الدول تحتال للهروب من كأس العولمة الأميركية، بعد أزمات روسيا والبرازيل، مما يعني كساد سوق تصدير النموذج الأميركي المعولم. وفي هذه الحالة فإن الولاياتالمتحدة سترفض أي نموذج بدلي لأنه يضرب مصالحها. من هنا فإن الخطوة الأميركية المقبلة ستكون في عملها على إحياء سياسة الأحلاف وتحريك رصيدها القديم في هذا المجال، حيث السيطرة على الأحلاف أكثر فائدة وعملانية من السيطرة على الأسواق، خصوصاً أن المكاسب الاقتصادية التي حققها حكم كلينتون، ستجد نهايتها مع انسحاب الدول النامية وتحفظها على الانخراط في العولمة الأميركية، وأيضاً مع انهيار اقتصاديات الدول المتعولمة (سابقاً) المتعرضة للأزمات والانهيارات الاقتصادية. وهذه التهديدات تجعل من النفط العربي البؤرة الدائمة لاهتمامات المصالح الأميركية. وحماية هذه المصالح لا يمكن أن تؤمنها الأساليب الأميركية الراهنة، خصوصاً بعد أن شارفت الرواية العراقبة على نهايتها. لكن الولاياتالمتحدة، قد تدرك كأن مثل هذه الأزمات لا تخرج على كونها حلولاً مؤقتة، وخطرة على مستقبل المصالح الأميركية. لذلك نجدها قد باشرت إعادة إحياء سياسة الأحلاف بدعمها الحلف التركي-الإسرائيلي (دعم إعلانه لأن وجوده المادي قديم) وبالعمل على توسيعه وفق خطة مستقبلية محددة، ينتظر تنفيذها حدوث بعض التغيرات المحسوبة والمؤكدة (بحسب التقارير الأميركية)، بحيث تأتي الأردن والدولة الفلسطينية (بعد دخولهما في كونفدرالية) كعضو جديد في هذا الحلف. فإذا ما ترسخ الحلف على هذا الأساس فإن توسيعه يرتبط بمجرى العملية السلمية. وعندها فإن تفجير أزمات المنطقة سيتم توظيفه لدعم توسيع هذا الحلف. ولعلنا نجد في هذا، التفسير للامعقولات الأميركية الراهنة كافة في منطقتنا، والتي قد تعقبها مفاجآت قريبة أكثر لا معقولية من تلك الراهنة، وانطلاقة هذه المفاجآت مرتبطة بوفيات الأعيان العرب خلال السنتين المقبلتين، وبعضها غير متوقع الآن، في حين يعتبر بعضها الآخر من المسلمات. وبانتظار ذلك، فإن المخابرات الأميركية سوف تتلهى بتصفية بعض الشخصيات التي قد تملك قدرة على التحرك في وجه المفاجآت الأميركية المقبلة.