أرغبُ أنْ أُدوّنَ ما علمتنا إياه جدَّتي في صيف المدينة.. الذي بلغنا فيه أنا وأخي الذي يكبرني بسنة وثلاث خطوات بين السابعة والتاسعة من عمرنا..ولكنني متأكِّد من إنَّها قد علمتنا فعلاً في زمن مضى.. ولسنا في حاجة إلى إعطائنا شهادة على تعليمنا بأنها مؤكَّدة. إننا أشعرنا بهذا الأمر الذي يمكن ألا يكون قد وقع يضجُّ بداخلنا .. بل إننا لا نعلم ماذا أُسمّيناه.. أعتقد أنه يمكن تسميته نطق حرف، لكنَّ الحروف لا تتربع على اللسان وأننا لسنا متأكّدين أي نوعٍ من التعلم الذي استقرّ في الذهن.. وحفظ في القلب. كنا نردد مخارج الحروف التي تسقط من لسانها .. فك حرف تلو الحرف .. وقد اعتدنا ان نجالسها بين تلك الحياض في مشتل متصل خلف بيتنا القديم يدعى " البخشة " .. ولا اعرف من جاء بهذا الاسم.. حيث يحوي نخلة تثمر في الصيفال رطب " الحلوة " وشجرة سدر تثمر حبات "النبق" .. كما تجمع بعضاً من النعناع المديني والمغربي وعناقيد "عنب مديني " تغطي ثلاثة أرباع مشتلنا " البخشة " وأجمل ما في ذلك .. بركة صغيرة يسبح فيها أحفادها على فترات . لا أنا ولا أخي نُحسن نطق الحروف كاملة.. ولكن هناك أشياء لا يمكن قولها إلا باكتمال الأحرف .لقد علَّمتنا جدتي.أحد تلك الأشياء وخاصة كلمات الاحترام وآداب الاكل والحفاظ على مظهرنا من حيث نظافة هندامنا، أي ملابسنا في مناسبة ما او المدرسة. علَّمتنا ان نكتب فوق دفاتر تراب " البخشة " أبجديات الخواطر والوجدانيات..حيث كانت في صباحات مدينتنا الباكرة تمتد يدها إلى رؤوسنا النامية..حينما يقول صوتها في زوايا البيت "هيا " حان وقت الدرس..وقت القلم ..وقت الأوراق البيضاء في كراريس الحقائب .. علَّمتنا في الأيام الأولى ألا تفارقنا ..تقف عند باب البيت تودعنا..ثم لا تقاوم..تتبع خطانا لتحرسنا من أشعة الشمس الحارقة..تحرسنا مما يزرع التردد والخوف فينا .. تتبعنا ثم لا تلبث ان تكون الى جوارنا..حتى جلسنا يوميا أمام الدرس..نقرأ خلف المعلم كلمات سحرية تحفظها جدتي في صدرها. علَّمتنا أن نعيد السطور الأولى بإتقان وأن الحرف الذي ينحني في آخر الصفحة حرف مرتعش وخائف ومتردد..كانت دوما تقول : انتم مشاعلي وقناديلي.. وكلمات كراساتكم هي عيني وقلبي ..لكنني لا استطيع كتابتها..أنا معكم.. أجمل وأحن على الورق الأبيض.. وكما اعتادت ان تنادينا .. هيا اقرأوا لي درس الأمس .. ثم تجلس صامته مهتمة.. كانت خلف الدرس دائماً.