توارثت أجيال مقولة الإمام علي (رضي الله عنه) «الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن»، وتأصلت مفاهيم حول الانتماء للمكان وعلاقة الكائن الحي به، حتى غدا الرحيل عن مسقط الرأس والتهجير من أقسى العقوبات القدرية المنصبة على الإنسان المنتمي، إذ ارتبطت الغربة بفراق الأحبة والبعد عن مسقط الرأس ومهد الطفولة ومراتع الصبا. إلا أن عصر «التقنية الحديثة» نسف الكثير من القيم والمفاهيم التقليدية ومنح أجيالاً فرص الترحال والتجوال من دون وجل أو منازع «نوستالجي» فلم تعد الغربة في عصر الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة مربكة أو مؤثرة في نفوس المبتعدين عن أوطانهم وأهليهم. ولو قُدّر للكاتب والمؤرخ خير الدين الزركلي أن يحيا في هذا العصر لكان لزاماً عليه أن يعيد النظر في قصيدته ذائعة الصيت «العين بعد فراقها الوطنا، لاساكناً ألفت ولا سكنا»، فالمسافات لم تعد عائقاً عن التواصل، وتواصل أبناء البلد الواحد في البعد يمثل أنموذجاً فريداً في كسر الحواجز النفسية وتوفير فرص الالتحام بالمكان والناس وسرعة التآلف بين الأجناس البشرية المختلفة، والعيون تألف اليوم وتؤلف داخل الوطن وخارجه. ولا يجد عدد من المبتعثين السعوديين إلى جامعات ومعاهد بريطانيا غضاضة في قضاء العيد بعيداً من وطنهم مستعيضين عن بيت الأسرة بالأندية الطلابية وسفارات بلادهم التي توفر فضاءات بديلة وحميمية، إضافة إلى توافر التقنية المعدة لنقل أصوات وصور الأهل في كل وقت ما يعني اضمحلال مفهوم البعد المكاني، وتواري حواجز المسافات. ويرى المبتعث السعودي إلى بريطانيا خالد التويجري أن مفهوم الحنين إلى الوطن والعيد مع الأهل لم يعد بذات المستوى الذي كان عليه في زمن الرسائل البريدية، إذ كان المبتعث يقضي أشهراً وأسابيع لا يعلم عن أهله وأسرته شيئاً ما يؤهله لاستبطان القلق والتوتر والاحتمالات المتوهمة، مضيفاً أنه على اتصال شبه يومي مع أسرته في السعودية عبر «الماسنجر» والهاتف الجوال حتى لكأنه بينهم ما يعني انعدام كل ما يثير الشجن الحسي، لافتاً إلى أن الوجدان تسكنه مشاعر خاصة بالذات ليلة ويوم العيد كون للذكريات حضورها في هكذا مناسبات. فيما يذهب الطالب المبتعث علي منصور إلى أن فتح باب الابتعاث عبر برنامج الملك عبدالله بن عبدالعزيز أسهم في تزايد أعداد المبتعثين السعوديين، ووفر مساحات التقاء بأبناء الوطن من خلال مناسبات رمضان والأعياد، مضيفاً أن الأسر الصغيرة في الغربة تمثل تعويضاً عن الأسر الكبيرة، وتحقق قدراً من الانسجام في وجود أصدقاء من بلدنا يشاركوننا كثيراً من الاهتمامات، ويحدون من درجة الحنين إلى العيد في حضن الوطن. ولا يخفي الطالب محمد الغامدي سعادته بأن يعيش تجربة العيد خارج فضاء الأسرة المألوف لديه في مظهره وروتينه المعتاد، لافتاً إلى أن السفارة السعودية في بريطانيا والأندية الطلابية تنظم احتفال أعياد يجمع المبتعثين تحت مظلة الوطن ما يسهم في تخفيف ثقل البعد ويقلص مفهوم الغربة كون الغربة تعني الانفراد وعدم الاندماج مع المجتمع الذي تنتقل إليه، مؤكداً أن البعض يشعر بالغربة وهو بين أهله وناسه. من جانبه، يرى الباحث الاجتماعي والنفسي سالم باحمدان أن الارتباط بالمكان والإنسان يتفاوت من شخصية إلى أخرى ومن بيئة إلى بيئة، مرجعاً الفضل في الحد من وجع الغربة إلى سهولة الاتصال والتواصل مع الأهل وتقارب المسافات بين المغترب وبين وطنه وأهله، داعياً المبتعثين إلى المزيد من التفاعل مع المسلمين المقيمين في أماكن الابتعاث، والانفتاح على ثقافات ومناسبات الآخرين كون الثقافة تجربة ومعايشة أكثر من كونها كلاماً نظرياً.