ثمة من تحلو له المقارنة بين "جدة" و "لوس انجلوس" .. والمقارنة المقصودة هذه المرة ليست إلا لكشف "الفارق المذهل" في حجم الاستعداد "المؤسسي" للأمطار والسيول والفيضانات، بين المدينتين اللتين تتشابهان في الطبوغرافيا إلى درجات متقاربة .. فكلاهما مدينة بحرية، فجدة تقع على ساحل البحر الأحمر الذي يحدها من الغرب، وكذلك لوس انجلوس التي تتوسد صفحة المحيط الهادي الذي يجاورها من الغرب أيضاً.. وتحد جدة من الناحية الشرقية جملة من الجبال، التي تستقبل بين فترة وأخرى متباعدة أمطاراً، ثم تدلقها غرباً باتجاه الأحياء الشرقية والوسطى منها، وكذلك لوس انجلوس يحدها شرقا جبال روكي العالية الارتفاع، والتي تحظى بأمطار وافرة بل وشديدة، هي بالتأكيد أغزر وأكثر من أمطار جبال جدةالشرقية عدة مرات. الفرق في التعامل غير أن المدهش أن القائمين على شأن المدينةالأمريكية تعاملوا مع قضية الأمطار عموماً، والسيول خصوصاً باحترافية عالية، يمكن أن تكون درساً بليغاً لكل من أراد أن يتعظ، أو يأخذ الفكرة الأمريكية في حسن التدبير مع قضية السيول.. بينما جدة تجاهل المسؤولون عنها قضية خطر جبالها الشرقية، وتعاملوا مع مسألة سيولها إما بتجاهل تام، أو بعدم حسن تقدير منهجي يوقف شبحها المخيف، حتى وقعت كارثة سيول "الأربعاء الأسود" يوم الثامن من ذي الحجة 1430ه ، فحدثت الفاجعة التي كان من نتائجها حصد أرواح المئات من المواطنين والسكان في سويعات قليلة، ناهيك عن الخراب الكارثي الذي دمر الممتلكات، وجرف العربات كما لو كانت قطع بلاستيك صغيرة. شبكة تصريف السيول ومن تشابه الموقع الجغرافي وطبوغرافيا الأرض بين لوس انجلوس وجدة، إلى التباين الصارخ في مشروع شبكة تصريف الأمطار والسيول.. ففي المدينةالامريكية التي تبدو من الجو، وكأنها فنجان قهوة غائر في تخوم الأرض، تحيطها الجبال الهائلة، والتي تبدو للوهلة الأولى في خطر داهم، حيث قد يقول قائل أن اية سيول غزيرة قادمة من المنحدرات الصخرية لجبال روكي قادرة على اقتلاعها من مكانها، وتدميرها بالكامل، وقذفها إلى المحيط، لكن بعد تأمل أحوال، يظهر سريعاً الفكر الاستراتيجي للقائمين عليها، ممن تعامل مع أرضها ومناخها بآليات احترافية غاية في المهارة، حيث قام القوم هناك بإنشاء شبكة تصريف ضخمة للسيول ، بدأت بحزام حول المدينة من تحت الجبال تتفرع منه قنوات واسعة وعميقة ومتينة، تستقبل السيول أياً كان حجمها، وفي مرات كثيرة خلال السنة الواحدة، ثم تصرفها إلى المحيط، وسط دهشة كل من يزور تلك المدينة، الرابضة على الساحل الأمريكي الغربي.. فيما مدينة جدة لم تحظ سوى بشبكة تصريف سيول قليلة جداً وزهيدة الأداء، وجودها مثل عدمها، وإن شئت الدقة إجمالاً فهي بدون قنوات لتصريف السيول بالمعنى المتعارف عليه هندسياً وحضارياً، مع أنها مدينة تجاورها الجبال عند تخومها الشرقية، وتتمدد في أرضها أكثر من عشرة أودية، كوادي بني مالك، ووادي غليل، ووادي مريخ، ووادي عشير، ووادي قوس وغيرها. وبقي من الطريق أن أحد المشاريع البائسة لتصريف السيول في جدة، وهو القناة التي تبدأ من قويزة، ثم تمر في حرم جامعة الملك عبدالعزيز، وإلى حي كيلو ستة ، ثم إلى البحر، قد تم "دفن" جزء من امتدادها عبر مخطط المساعد في قويزة منذ حوالي ثلاثين عاماً، وسط سؤال ما زال نافراً وحائراً، لمن يستطيع الإجابة عليه!! شبكة الصرف الصحي وإذا سألت عن شبكة الصرف الصحي بين كل من المدينتين، فلك أن تسبح ما شاءت لك السباحة في بحر العجب والدهشة، بين هنا وهناك؟.. ففي لوس انجلوس وصلت شبكة الصرف الصحي إلى كل شبر من المدينة، بل وفاضت إلى أماكن التمدد العمراني لسنوات طويلة قادمة .. أما لو أجلت النظر إلى المدينة السعودية، فإنك ستجد أن شبكة الصرف الصحي فيها لا تغطي سوى ما يقارب ال 30%.. "هناك من قال إنها 8%".. وسط شبكة تجاوزها الزمن، وانتهى عمرها الافتراضي، وصارت مهترئة، بينما معظم المدينة ما زال يغص ب "البيارات" ويسبح فوق بحيرة من المياه الجوفية، التي تهدد أساسات المباني، ويتزايد خطرها سنة بعد سنة في هذه الناحية خصوصاً، ناهيك عن الأخطار الأخرى!! بحيرة الصرف وإذا كنت في لوس انجلوس، فاحذر أن تتحدث مع أي أحد من سكانها، مثل أن تطرح عليه سؤالاً بريئاً أو ساذجاً : هل لديكم بحيرة للصرف الصحي، مثل تلك التي "تنعم" بها جدة ؟.. هناك في الواقع لا بحيرات صرف صحي، ولا بحيرات ماء حلو ؟.. فكل شيء " يسير بالمسطرة " كما يقولون في الأمثال.. لكن عندنا هنا في جدة تجد الفرق واضحاً، في بحيرة الصرف الصحي، والتي بلغت السذاجة أو الحكمة "لا أدري" بأحدهم لأن ينعتها بأنها "بحيرة المسك".. لتظل في كل الأحوال "قنبلة موقوتة" تهدد حياة الألوف المؤلفة، إن لم يكن الملايين من البشر بالموت غرقاً، وأين؟!! تحت مياه المجاري.. ذلك هو الفرق للأسف، بين مدينتين الأولى أمريكية تعاملت مع شأنها الداخلي بما يجب، والثانية سعودية أحوالها ما زالت كما ترى أعيننا، وتسمع آذاننا، وتشم أنوفنا!! الأنهار الاصطناعية من يرى مدينة لوس انجلوس الأمريكية من الأعلى، يرى شبكات تصريف السيول والأمطار فيها، وهي تتخلل المدينة، في إيقاعات هندسية جمالية بالغة الإبداع، وكأنها أنهار طبيعية تجري وسطها وعلى جوانبها، وعندما يهبط المشاهد من الجو، يجدها قنوات تصريف للأمطار تمت صياغتها في إبداع هندسي جمالي، يحاكي مشهد الأنهار الطبيعية، حيث جريان المياه فيها طيلة العام، وحيث حركة الناس والمركبات والحياة، تمضي في وتيرة طبيعية، دون منغصات، أو اكتساح من السيول للمساكن والأسواق والطرقات.. وكأن أولئك القوم وحدهم هم الذين يعرفون كيف يديرون الشأن الداخلي لمدنهم، بينما غيرهم يعجز طيلة السنين، وبالرغم من وفرة الاعتمادات المالية، والدعم الحكومي السخي، على استسناخ التجربة الأمريكية أو غيرها، للوصول إلى ما يمكن له أن يحقق الطموحات ويشعرك كإنسان مواطن أو مقيم أنك تعيش في مدينة حضارية فعلاً، تتوفر لها وفيها كل البنى التحتية، التي تجعلك ترفع رأسك مزهواً بمدينة متقدمة - قولاً وفعلاً؟!!