قد نقول في عملية الانتاج القصصي العربي الجديد، المرتهن لجماليات اللغة في تراجع النثرية الشعرية،وقفزها على الحالة القصصية في الشعر، الأمر الازدواجي الذي أمكن من خلال تذويب اللغة في عبارتها المشتركة، وانتاجها لكتابة بصرية تأخذ المشهد الى اللغة ،وتأخذ اللغة الى المشهد ، هذا الاعتماد الضروري للتخلص من سلطة النص بتعريفاته المسبقة، القديمة، فتح المجال أمام حرية الذات المبدعة التي تركت السؤال عن ماهية ، وجودها في عملية تناسخ الاجناس الادبية، ودأبت الى موضوعة السؤال المختبري، لتهملة في النتيجة ، ولتثبت ان اللغة هي الوعاء الشكل ، الذي يحل العبارة الى مسكنه الضرروي، في الجلدية القائمة بين جنسين متشابهين ، بصرية القصيدة وشعرية القصة .وقد كانت المخيلة المتأملة على توظيف العبارة في معناها الشعري، هي المخيلة ذاتها ، التي فتحت سؤال الاشتهاء قبل السؤال النقدي فيها، فجاءت التجربة بمفاتيح الدخول الى عالم الكتابة العفوية ، لتنتصر المخيلة على التعبير النقدي، الذي كان يعيب على القاص استخدامه للغة الشعرية في كتابة القصة، ويعيب على الشاعر استخدامه للمشهدية في كتابة القصيدة . إن أول انتصار بشري في الوجود، كان للمخلية، فمواد التعبير منذ النثريات الأولى في التاريخ، لم تكن مجردة، انما هي نتاج خالص للمخيلة لذلك فهذا الكم الهائل من الابداعات على اختلاف اشكالها، كان محاولة لانتصار المخيلة بأدواتها الممكنة على الاكتساح والاضافة ..مادة النص، فضاء النص، شاعرية المكان ..كلها حوافز انمائية لجلالة المخيلة الاسانية ، صاحبة العبارة ، ومرسلة الكلام . لقد قورنت العملية الابداعية طويلا، بالقوة الحسية عند الفنان الذي بالضرورة يمتلك ادوات صياغة النص كيفما تنتجه الذاكرة في الفكرة والرؤية ، وقد اثبتت ميكانيكا العقل المنتجة إفلاسها ، أمام قدرة المخلية الثاقبة والقابضة على القصة القصيرة، كسر طولهما ، والخروج عن المألوف، بلغة أخرى مغايرة للواقع والحلم، لغة اخرى تضيفه على لذة التعاطي مع العبارة كما تضيف للغة الشكل قدرة المضمون على استيعاب أدق التفاصيل في قبح الحياة وجمالها . لقد كانت تلك القصة، أسيرة معاييرها حتى اسرفت طويلا في السرد الممل، واطالت من عمر البطل المكابد ، نتاج أزمة الحضارة في المجتمعين القديم والحديث على السواء، وأسير الايديولوجيات فيه . فالبطل المعاصر في بصة الخمسينيات والستينيات مثلا ، كان وليد " الدولة " غير الشرعية ، التي أطاحت بقيمة الجميلة ، وانتصرت بمناهجها التربوية على العقل، ولذلك جاء هذا البطل مأزوما بكل قوانين تلك الدولة . في قصة السبعينيات والثمانينيات، ووصلا الى قصة التسعينيات ، كان البطل المعاصر حاضرا في التجربة بإطلالة العقل على المخيلة، وانتجت نصها الممكن الذي اتسع للذائقة الجمالية ،وتعرت في حضورها سلطة العقل المنتج لتلك المواد التربوية المتلبسة في المناهج . والتي اسفرت عن خسارتها المعرفة بالسؤال ، فكان لابد أن تظفر التجربة بابداعاتها المتميزة ، التي كان لها فضل ظهور حركة نقدية جديدة تواكبها، تميزت هي الاخرى بطرح سؤالها النقدي، في صميم التجربة المختلفة وسؤالها الابداعي . لقد اندرج هنا على الكثير من التجارب في دول العالم الثالث التي وقعت تحت الاستعمار، وشكل ذلك حافزا قويا للخلاص من تأثيرات الاستلاب الثقافي، ولقد كانت القصة من بين الفنون التي تأثرت بشكل مباشر خلال تلك الحقب الاستعمارية، لارتباطها بالموروث الحكائي الشعبي، واليوم ، وبرغم كل الازمات المتلاحقة ، تحاول القصة في الكثير من تجاربها الجديدة الاطاحة بأهرامات تلك البدع ، وتنتصر لدولة الانسان الباقية، لتنتج أجمل قصة في أسوأ زمن، فجاء انتصار المخيلة لتعيد للحواس بطولة المشهدالواقعي المتخيل، ضمن فعاليات دك الحصون والقلاع القديمة التي كرست تلك الادوات لقمع الذات . ان النص المدهش، هو يثير في حواسي، ويستفزني ويكشف لي عن سر الحلم الذي لااستطيع أن أبوح به في النهار، النص الذي يخطف انثاي من عقلها، هو نصي ومقعدي في حديقة الحرية الجميلة، وقد دعاني هذا النص مرة الى شرفة أطلت منها على الكون ، فاختزلته في فنجان قهوة ، بين الساعة العاشرة والعاشرة والنصف تقريبا . إذا كان القفز الكبير للقصة العربية القصيرة ، قد اندرج ضمن طروحات الحداثة ، فإنها بهذا المعنى ترتكز على مقومات التجريب الشاكل، وبحيث تستفيد من كل الفنون السائدة ، وتحاكيها في اللغة، دون أن تفقد حالتها كقصة . إن لحظة الكتابة بكل عبقريتها ، لاتخضع لأية سلطة خارج لحظة إملاء ضرورية كصوت انفجار بسبب تأثير خارجي، إن ما يحدث امامنا، هو شكل هذا الانفجار، وهذا ما يهمنا دون البحث في التفاصيل ، تلك اللحظة المقدسة ، هي صلاة المخيلة في محراب العبارة التي قد تكون قوية وفاعلة بحجم السؤال .وقد تكون جميلة ودافئة بحجم التوحد، وقد تكون هي النص المطلق للمخيلة بكل احتماات الكتابة . يسعدني ان اتعرف الى وجه هذا الغامض بقفازين أبجديين ، هما لغتي والتأويل ، ويسعدني أن اقرأ في رسم البنت ، مشهد حلم الليلة الفائتة ، والريح تعصف بمعطف غوغول المبتل .