في العاصمة الفرنسية باريس كان علينا أن نرتدي الملابس الثقيلة .. فهنا يختلف الطقس عنه في تولوز الأكثر حرارة.. وعادة ما يكون الجنوب هو الأكثر تعاسة في البلدان المتقدمة والمتأخرة رغم كل تضاريس الطبيعة والناس إلا تولوز فقد نالت أمانيها .. وقد عرض مضيفونا من فريق الخطوط السعودية خاصة العاملين في المكتب الإقليمي هناك عبد الله الحويثي وعلي القحطاني.. إمكانية توفير ملابس شتوية لمن لا تتوفر لديهم من الوفد الإعلامي. غير أن الجميع قدم لهم الشكر فقد كانوا جميعاً أي فريق السعودية أكثر كرماً بدءاً من المهندس خالد الملحم وانتهاءً بقادة أكثر من عربة كانت تحت تصرف الوفد في أسطول من أحدث الموديلات.في بهو الفندق توزعت اهتمامات الزملاء فهذا محمد دياب يريد زيارة الحي اللاتيني.. وهذا عبده خال وحمود أبو طالب يريدان رؤية مقاعد الأدباء خاصة عبده خال الذي أطلقت عليه "سارتر الشرق" أما الدكتور علي موسى فقد اختفى بعض الوقت واتضح فيما بعد أنه قد كتب مقالاً جميلاً عن رأس عبده خال.. في حين خلد صالح الشيحي إلى النوم مبكراً في الوقت الذي أخذ بقية الإعلاميين عبد الله الغامدي وسعود التويم وسعد الشهري وصالح الرويس في بث رسائلهم الإخبارية إلى وسائلهم في المملكة. أما خالد السليمان الأنيق في كل شيء فقد بدأ يستعد لترتيب موعد سفره إلى لندن. وفي حفل العشاء الذي أقامته الخطوط السعودية بحضور السفير محمد آل الشيخ دار الحديث حول العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية اتضح من خلالها أن سفيرنا في باريس يتمتع برؤية سياسية وثقافية ذات أبعاد تحلق في أجواء تنمية وطن يحتاج إلى الكثير من هؤلاء الرجال في الوقت ذاته شرح لنا الأستاذ عبد الله الحسيني رئيس المكتب الإقليمي للسعودية في أوروبا والذي جاء من مقره في لندن عن مراحل تطوير مكاتب الخطوط في العواصم التي يشرف عليها لتصبح في مكان المنافسة التي تليق بمكانة المملكة.. وقال الحسيني إن من يعرف خدماتنا في أوروبا في السابق عليه أن يقارن بين المرحلتين. غير أنه اشتكى من عدم معرفة عملاء السعودية من المواطنين بالخدمات الإضافية التي تقدمها الخطوط مثل حجز الفنادق وتأجير السيارات والاستفادة من التخفيضات خاصة لحاملي بطاقة الفرسان. تنتهي أمسية السعودية بموعد على عشاء اليوم الثاني في منزل السفير الذي قال فلنكمل الحديث غداً. وعند ذهابنا إلى منزل الدكتور آل الشيخ شعرت أنني اتجه إلى بيت في جدة أو الرياض.. وهو شعور لابد أن يتملك كل من يذهب إلى سفارة بلده أو مقر ممثلها.. فذلك بمثابة الأمان والحنين إلى الوطن. زاد من ذلك استقبال السفير لنا بزيه الوطني ومعه نائبه وعدد من المسؤولين بالسفارة. وفي صالونه الأنيق قلت للدكتور محمد آل الشيخ: حدثني عن أوضاع الجالية السعودية في فرنسا وهل يتم توفير التعليم لأبنائهم؟ فأجاب قائلاً: في السنوات الماضية كانت هناك دور مستأجرة وكانت متواضعة لا تكفي لحاجة الطلبة والطالبات.. ولكننا وباهتمام من حكومة المملكة وحرصها على أبنائها في كل مكان قد انتهينا من إنشاء مجمع لجميع المراحل حتى الثانوية العامة وأصبح المقر يحتوي على كل الخدمات ويستوعب أكبر عدد من أبناء الجالية السعودية.وقد نجحنا في إنجاز المشروع وتم الانتقال إليه في الأسابيع الماضية. وفي هذه الأثناء تدخل الزميل صالح الشيحي موجهاً حديثه لمعالي السفير حيث قال: إننا بحاجة إلى تقديم سفراء لثقافتنا ليكونوا رسلاً تعكس حجم الرصيد الذي يمتلكه المواطن السعودي في حقل الإبداع.. ولا شك يا سعادة السفير أن عبده خال هو واحد من كُتَّاب الرواية المتميزين على مستوى الوطن العربي.. فهل يمكن نقله كمعلم في إحدى مراحل مدارس الجالية السعودية هنا في باريس؟ وقد أجابه السفير بالموافقة المرهونة بموافقة عبده خال الذي أخذ يتحسس رأسه دون أن يتخذ القرار ولكنه طلب المهلة وعقَّب بقوله: كيف ترون أن ينتقل ابن الهنداوية هكذا دفعة واحدة إلى باريس وهنا تدخل الدكتور حمود أبو طالب بقوله: لعل هذا أفضل من أن يتم الحسم من راتبك كل ما تمت دعوتك إلى مناسبة ثقافية خارج المملكة! على طاولة العشاء كان مازال للحديث بقية ولكن في هذه المرة جرى تناول أسلوب عبده خال في الرواية من قبل الدكتور سعد الموسى في قراءة نقدية سريعة أجاب خلالها عبده قائلاً : إنني أكتب روايتي من زاوية لا أراهن على أنها سوف تلقى قبول كل الناس ولكنها تخضع لمعايير قد تكون أشبه باللوحة التي قد يقرأها كل على طريقته لنستمع في الوقت نفسه إلى ما أضافه عبده حول صناعة الرواية العربية.. لينتقل الحديث إلى حجب الإبداع العربي عن الآخرين ولماذا لا يصل مبدعونا العرب إلى العالمية؟ حيث يرى الدكتور علي موسى أن الإعلام العربي لم يخدم المبدعين وهو الذي غيَّب القدرات الوطنية عن الآخر. ومع أنني اتفقت مع الدكتور الموسى إلاَّ أنني قلت: إن الإعلام العربي كان قد عاش لفترة طويلة من الزمن رهن الارتزاق والتسييس الثقافي. وهو ما أدى إلى صناعة أبطال من ورق.. خرجوا من رحم إعلام الشللية لثقافة غلب عليها التزييف. وبالتالي مازال الإعلام العربي يجتر هذا الإرث الثقيل في زمن العولمة والانفتاح بعيداً عن الإحساس بمسؤولية التوصيل.. ولابد من الاعتراف أن هذه الممارسة قد ألقت بظلالها على العقل العربي وانعكست سلباً على المبدعين العرب الذين يشعرون بالإحباط في كل شيء على المبدعين العرب بالإحباط في كل شيء.. وليبقى شعار جلد الذات هو العنوان الذي يغرق فيه إعلامنا العربي في شموليته وتتقاطع أمامه الكثير من الأسئلة ومحاور الكلام. وهنا جاء صديقنا العزيز الدكتور زياد الدريس مندوب المملكة لدى منظمة اليونسكو في باريس الذي كان قادماً للتو من دبي في محاولة للقاء الوفد الذي كان يستعد للمغادرة.. ولأن عمدتنا محمد صادق دياب رجل "بيتوتي" لا يفضل السهر كثيراً وينام مبكراً طوال الرحلة. فقد غادرت معه إلى الفندق ومعنا الزميل خالد السليمان الذي كان قد حزم حقائبه استعداداً للسفر إلى لندن بعد ساعات في الوقت الذي بقي بعض الزملاء مع الدكتور الدريس الذي وعدناه أن نلتقيه قريباً في المملكة. وقيل لنا في اليوم الثاني إنها كانت أمسية ثانية تحدث فيها أديبنا الرائع زياد الدريس عن تجربته في المنظمة الثقافية الدولية. في الشانزليزيه في هذا الشارع العريق تبرز اهتمامات زوار العاصمة الفرنسية فهنا خطوط الموضة وآخر منتوجات العطور وحكايات المقاهي.. وقراءة التاريخ الفرنسي من جوانبه المتعددة غير أن أشهر من قدم الاليزيه إلى العالم هم الروَّاد من الأدباء والصحفيين من مختلف بلدان العالم بمن فيهم الفرنسيون الذين أثروا الثقافة العالمية ومنهم الفيلسوف والروائي بول سارتر الذي كان رائد المثقفين ومنظر الوجودية الأوَّل بعد رحلة من المقاومة ضد النازية. وارتبطت حياته هنا في مقهى الفوكيه الشهير والمقهى البرازيلي بكثير من حكايات الأدباء وكانت صديقة سارتر الكاتبة الفرنسية الشهيرة سيمون دوبوفوار هي من أبرز الذين كانوا يلتقون مثقفي العالم الذين يبحثون من خلالها عن تفاصيل في حياة سارتر ويستمتعون بالاستماع إليها. وهنا في الاليزيه اكتسب المثقفون من الرحَّالة العرب رصيداً من المعرفة نقلوها إلى الوطن العربي وخدموا الثقافة الغربية في الوقت الذي مازال لم ينقل الآخر عنهم أي شيء يخدم الثقافة العربية.. ربما لأننا ما زلنا مستوردين.. أو أننا لم نقدم منجزنا الثقافي للآخر.. وهو ما يعيدنا إلى المربع الأول في محور الجدل الذي بدأه أخي الدكتور علي الموسى. وإذا كان قد غاب عن الاليزيه الشارع والإنسان ذلك الوضع الذي كان ملتقى الأدباء والمثقفين وجنرالات الحرب.. ومعارضي الاستعمار ومؤيديه.. وكبار السجناء السابقين والهاربين من العدالة والهاربين من الظلم الذين يتبادلون جميعهم سجالات الكلام. و"يتستر" كل على طريقته. فإن المشهد العام يؤكد أن مقاعد الروَّاد في مقاهي باريس مازالت دون إرث ثقافي إلا من "متسكعين" محليين وقادمين من أصقاع الأرض يهيمون على أطراف الطريق. أما مقاعد الأدب فقد رحل روَّادها وتحولت تلك المقاهي إلى أماكن "لبوووووول" سارتر!!