للرواد أياً كانت ميادين ريادتهم، حقوق في اعناقنا لاينبغي أن ننساها، وحقهم الأول علينا، أن نعيد النظر في مسار حياتهم، وماتركوه لنا من إنتاج فكري وأدبي، نقوم بذلك إستشرافا لآفاق المستقبل من خلال التزود بمخزون من عبق الماضي القريب والبعيد. وشاعرنا الكبير الأستاذ حسن عبدالله القرشي {رحمه الله } أحد هؤلاء الرواد الذين أثروا حياتنا الثقافية بألوان من الإنتاج الأدبي الخصب الممتع، وكان صوته حاضراً ضمن الأدباء الرواد، وبرز اسمه بين كبار الشعراء منهم بكل فعالية وجدارة واقتدار، وبقى صوته وشعره راسخاً في أنسجة الذاكرة وأعماق الوجدان، يتردّد صداه شجيا بعد رحيله وغيابه. ولعلنا قبل أن نستعرض جوانب من حياة الأستاذ حسن عبدالله القرشي الشخصية والأدبية، نقرأ ماكتبه عنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في مقدمة ديوانه {الأمس الضائع} في طبعته الثانية والتي صدرت في عام 1968م، يقول الدكتور طه حسين في مقدمتة الرائعة (هذه نسمات من الحجاز تبلغنا في مصر بعد أن طال العهد بنسيم الحجاز الأدبي، واشتد التفقد له، وملك الظمأ نفوسنا التي كاد يحرقها الصدى، لقد سكت الشعر الحجازي فأطال السكوت وأسرف فيه على نفسه وعلينا، وهو الآن يؤوب بعد غيبة طويلة، وينشط بعد هدوء أوشك أن يكون خموداً، ويرسل إلينا بين حين وحين نسمات حلوة (مرة) فيها لين ورحمة، وفيها شدة وقسوة، وفيها دائماً صفاء يسرع بها إلى أن تمازج الأرواح، وتملأ القلوب روعة وسحراً، ما أكثر ما تغنى ابن أبي ربيعة في بطاح مكة وظواهرها، وما أكثر ما تغنى الأحوص في ساحات المدينة، وفي ضواحيها، وما أكثر ما تغنى العرجي في منازل بين هاتين المدينتين المقدستين، وما أكثر ما ملأ غناء أولئك الشعراء نفوس الأجيال حبا وحزنا وفرحا ومرحا وطموحاً إلى الجمال، وهؤلاء شعراء الحجاز المعاصرون قد أخذوا يصلون القديم بالحديث، ويردون إلى الحجاز مجده الفني العظيم، كان قدماء الشعراء الحجازيين يتغنون في مكةوالمدينة، فلا يلبث غناؤهم أن يملأ الأرض الإسلامية رضىً وأملاً وحباً للحياة وشوقاً إلى ربوع الحجاز، ولم يكن أيام أولئك الشعراء من أدوات النشر ووسائل الإذاعة ما يملك المحدثون الآن، ولقد سمعت بين من سمعت من الشعراء شعر الأستاذ الصديق حسن عبدالله القرشي، ولم أكد أسمعه حتى كلفت به وتمنيت أن أراه منشوراً يقرؤه الناس في الحجاز، وفي غير الحجاز من أقطار الأرض، والأماني تخدع أصحابها أحياناً، ولكنها تسمح لهم أحياناً أخرى، ويظهر أنها سمحت لي بشعر الأستاذ الصديق، فها هو ذا يهيأ للنشر وها أنذا أسعد بتقديمه إلى القراء، وسيقرؤونه وسيعلمون أنه قد آن لشعر الحجاز أن يحتل مكانه الممتاز بين الشعر العربي الحديث) في عام 1344 هجرية ولد الأستاذ حسن عبدالله القرشي في مكةالمكرمة وبها تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدرسة الفلاح ثم واصل دراسته في المعهد العلمي السعودي حتى حصل على شهادته، ثم التحق بقسم التاريخ في جامعة الملك سعود بالرياض. أمّا عن تجربته الشعرية، فيحدثنا الأستاذ القرشي فيقول: (فتحت عيني على عالم الشعر هذا العالم السحري في شوق فارط ونشوة مبهورة، أريد أن أتكلم في المهد، أريد أن أقدم إنتاجا ناضجاً مشحوناً بالحيوية والدفق ولقطات الفن المبتكرة، أريد أن أكون الشاعر الذي يشار إليه بالبنان، كنت ذلك الطفل المنطوي على نفسه، تغيم في عينيه الرؤى، وتغمض ثم تتبلج، وتتضح، ذلك الطفل الذي يسدر بصره في المجهول، ويتعلق فكره بالذرا، ويتيه خياله في أودية الغربة، ثم يعود إلى واقعه فيشعر بالأبعاد الشاسعة المترامية بين مسيرة الخيال وبين ظل الحقيقة..كانت تجربتي في مخاضها وولادتها محددة، ولكن ثروتي من التصورات كانت كبيرة، ولم يكن زادي اللغوي قليلاً مع سني الصغيرة يومها فلقد حفظت القرآن الكريم، وأنا دون العاشرة، وكانت أذني السماعة وذاكرتي اللاقطة تساعدانني على حفظ الكثير من أبيات الشعر من قصائد.. كان الوالد رحمه الله يرددها، وكان راوية فذَّا للشعر وقارضاً مقلاً له)..وللمقال بقية ..