طلب أحد القراء لهذه السلسلة التي نتحدّث فيها عن ذكريات الفيلسوف العربي المصري الكبير عبدالوهاب المسيري في المملكة العربية السعودية وتحديداً في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك سعود بالرياض، أن يكون موضوع أحد المقالات فيها عن طريقة التدريس داخل قاعة المحاضرات، والأسلوب الذي يتبعه المسيري في تقويم طلّابه والتفاعل معهم. السرد القصصي هو الأسلوب المفضّل لدى المسيري في محاضراته، إذ يتمتع بموهبة أصيلة في السرد تجعل الطالب يتابعه وينجذب لحديثه حتى النهاية. من الأشياء التي مازالت عالقة بالذهن عن طريقة التدريس التي يتبعها المسيري ، هي قدرته الفائقة على استخدام المشكلات والأحداث اليومية التي يعيشها الطلاب في المقررات الدراسية بطريقة مدهشة ، دون أن يقع في الابتذال مهما كانت المواضيع التي يتناولها حسّاسة أو مثيرة للجدل، إذ تشعر كطالب يستمع له، أن لديه القدرة في الخوض باي حديث يريده دون أن يقع في أي مشكلات رقابية ، وذلك كله بسبب أنه يقدّم هذه القضايا أو المشكلات بكل رقي وتهذيب. لذلك لا يتردد المسيري من سرد أي قصة يواجهها في أي مكان عام، أو قراءة أي خبر في جريدة تقع في يده، أو نقد أي برنامج تلفزيوني شاهده البارحة، وتفكيك المعاني الكثيرة التي تختفي وراء هذا النص أو المشهد ولا ينتبه لها أحد. كانت المقررات التي يدرّسها المسيري، بحكم تخصصه في الأدب الانجليزي، تدور في فلك القصة والشعر والترجمة. في مقرر الترجمة الذي درسته عنده ، كان المسيري يستخدم مجموعة أوراق تضم قوائم لمصطلحات شهيرة في اللغة الانجليزية ولحسن الحظ أن كاتب هذه السطور مازال يحتفظ بهذه القوائم التي كتبها المسيري بخط يده إذ كانت تمثل المحتوى الذي ندرسه عنده. كان المسيري ينطلق من هذه المصطلحات إلى أفق واسع من الاستطرادات المرتجلة حول المشكلات والقضايا اليومية المعاصرة ، ولعل القضية الفلسطينية والعالم الغربي هما أكثر ما كان يتحدّث حولهما. هذه الاستطرادات غير المخطط لها ، هي سر جاذبية محاضراته ، وهي التي جعلت مقرر تذوّق القصة، على سبيل المثال لا الحصر، يمتلئ بأكثر من 40 طالباً في حين كان لا يزيد عدد الطلاب الذين سجّلوا نفس المقرر في شعبة أخرى عند الأستاذ الأمريكي ، عن ثمانية طلاب فقط لم يسمح الحاسب الآلي بتسجيلهم عند المسيري. أما التقويم، والذي يعني عند البعض الاختبارات الفصلية والنهائية، فهو أقل مكونات المنهج اهتماماً عند المسيري، وقد يكون هذا بسبب أن المحتوى الذي يقدّمه المسيري غير مخطط له ، ولا توجد عنده أهداف مسبقة محدّدة بشكل صارم ، فهو ينطلق في محاضراته من القضايا والقصص اليومية التي تحدث في محيط ومجتمع الطلاب. الأوراق أو القوائم التي كان يستخدمها كانت بمثابة خطوط عريضة عامة للمقرر لا يمكن الاستفادة منها إذا وقعت في يد أستاذ آخر ،لأن الوحيد الذي يفهم دهاليزها ومساراتها ، هو المسيري نفسه. ولعلّ الموهبة الأكثر وضوحاً عند هذا الفيلسوف ، هو قدرته الفائقة على تبسيط المعلومات التي كانت ستبدو معقدة وغامضة وعصيّة على الفهم عند غيره.