عبد الوهاب المسيري الذي نتحدث عنه هذا اليوم مفكر عربي مستقل نادر يقول عنه المؤرخ الأمريكي البارز كيفين رايلي أنه مفكر عالمي مبدع يقف جنبا إلى جنب مع أسماء مرموقة وفلاسفة كبار مثل ابن خلدون وماكس فيبر وإميل دوركهايم ويملك عقلية واسعة المدى وتعليماً أدبياً عريضاً وطاقةً هائلةً قدّم من خلالها انتاجاً نظرياً ثرياً في العديد من القضايا الثقافية والسياسية المهمة. لكن الحديث هنا عنه في هذا المكان، والذي آمل أن يستمر لأكثر من مقال، له سبب منطقي وهو أن هذا الفيلسوف قد أمضى هنا في المملكة العربية السعودية أغزر أوقاته إنتاجاً حيث كان يعمل في جامعة الملك سعود بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، وقد كان لكاتب هذه السطور شرف الاستماع والاستمتاع بفكر هذا الفيلسوف عن قرب كطالب يدرس عنده في نفس القسم حيث كان هذا الأستاذ الفذّ في قمة عطائه الفكري والفلسفي ولم يكن سرطان الدم الذي أصيب به في آخر حياته يعرفه بعد. هذه الفترة المهمة من حياته التي قضاها بيننا تقتضي الحديث عنها ولو من خلال الذكريات التي مازال طلابه هنا يحتفظون بها عنه سواء كان ذلك من خلال المحاضرات المثيرة التي كان يلقيها عليهم داخل أروقة كلية الآداب في جامعة الملك سعود أو تلك اللقاءات والندوات التي كان يحضرها الدكتور المسيري ويجتمع فيها مع طلابه ومريديه الكثر في المملكة. لم يكن المسيري أثناء فترة تدريسه لنا يحظى بتلك الجماهيرية والشهرة التي عرفناها لاحقاً بعد سنوات لكن عند الرجوع بالذاكرة إلى محاضراته المثيرة داخل أروقة قسم اللغة الإنجليزية في جامعة الملك سعود نرى هذا التميّز في الفكر والإبداع في النظرية والعبقرية في الطرح أمراً طبيعياً ومتوقّعاً. كانت محاضراته من القوة والتأثير على طلابه إلى الدرجة التي يحاولون فيها عدم الغياب عن محاضراته على الرغم من أستاذهم القدير لا يهتم بتسجيل الغياب ولا يسرد أسماء الطلاب الحاضرين في بداية كل محاضرة كما يفعل كل الأساتذة في الجامعات، ولا يعاقبهم على الغياب في تقويمهم مع نهاية كل فصل دراسي. كان تفاعل الطلاب وآداؤهم داخل القاعة وما يكتبونه من مقالات هو المعيار الحقيقي الذي يمكن من خلاله تقويمهم. العنصر الجاذب في محاضرات المسيري للطلاب هي تلك الاستطرادات الطويلة والجميلة والمثيرة، بعيداً عن المفردات الجاهزة والمكتوبة للمقررات التي كان يدرّسها. وعندما نفكّر في الأمر الآن ونتأمل في محاضراته آنذاك ندرك أن أستاذنا القدير كان يعكف وقت تدريسه لنا على مشروعه الموسوعي الضخم الذي يدرس فيه الفكر الغربي وخاصة تلك التي تتناول العلمانية والصهيونية واليهودية والذي صدر لاحقاً بعد سنوات من تدريسه لنا. لعلنا خلال المقالات اللاحقة نقف عند بعض هذه الإضاءات الجميلة التي مازلنا نحتفظ بها مع هذا الفيلسوف العربي الكبير.