تحدّثنا في الأسبوع الماضي في سلسلة ذكرياتنا كطلاب مع المفكر العربي عبدالوهاب المسيري أثناء تدريسه لنا في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك سعود في الرياض عن عدم التزامه بالأهداف الموضوعة مسبقاً لمقرراته التي يدرّسها وأنه، لو افترضنا وجوده الآن، قد يجد صعوبة كبيرة في التعامل مع لجان الجودة ومعايير هيئة التقويم التي انتشرت في جامعاتنا خلال السنوات العشر الماضية. عند الرجوع في الذاكرة إلى محاضراته لنا، يمكن القول إنه يهتم بالأهداف كنقطة انطلاق عامة فقط لكي يبدأ درسه وقد ينتهي به الأمر إلى التخلّي في أحايين كثيرة عن الأهداف الموضوعة ويتبنّى أهدافاً جديدة اكتشفها أثناء تدريسه وبعد تفاعله مع الطلاب داخل القاعة. بل يمكن القول إن المسيري كان قادراً على تغيير موضوع محاضرته المعدّة مسبقاً وإحلال موضوع جديد أثاره موقف شاهده أثناء قدومه صباح ذلك اليوم أو لمجرد ملاحظته لإعلان تلفزيوني أو لسماع حديث عبر الإذاعة وهو في طريقه للجامعة. لكن ليحذر أولئك الذين يحاولون التخلي عن الأهداف السلوكية، كما يسمونها في القطاع التربوي، وتطبيق فلسفة المسيري هنا لأن ذلك لا يتأتّى لأي أحد إلا بعد الكثير من الممارسة والتدريب والخبرة مضافاً إليها التمكّن من العلم والثقافة الموسوعية التي تساعد على الاستطراد والارتجال المثير والمثري معاً. وبالمناسبة، عبد الوهاب المسيري ليس من أنصار النظرية السلوكية، كما صرّح في أحد كتبه، وهذا يعني، إذا قرأنا نظريته تربوياً، أنه لا يتحمّس كثيراً لعنصرين في التدريس هما الأهداف والتقويم. كان المهم عنده ما يحدث أثناء التدريس وليس قبله أو بعده. الأهداف عادة توضع مسبقاً وهذا يجعلها خارج سياق الدرس أثناء التنفيذ؛ أما التقويم أو الاختبارات فهي تحدث عند انتهاء عملية التدريس، وهذا يجعلها خارج سياق الدرس أيضاً لأن المعلم لا يقوم بعمل أي شيء. ولربما وجد المسيري أن التقويم عنصر لا علاقة له بالتدريس، ولهذا الرأي ما يبرّره وخاصة في عصر ما بعد المسيري؛ إذ إن الجميع يعرف أن الاختبارات المصيرية التي تحدّد مستقبل الطلاب هي تلك الاختبارات التي تقوم بها هيئات مستقلة لا علاقة لها بالمعلمين أو المدارس النظامية أو الجامعات. ولهذا السبب يتذكرّ معظم الطلاب الذين درسوا عند عبدالوهاب المسيري في جامعة الملك سعود أنه كان يشجع الطالب على التعبير عن وجهة نظره في ورقة الاختبار، وكان لا يحفل كثيراً بكم المعلومات التي يكتبها الطالب؛ بل إن كان يهتم بالكيفية التي يستخدم فيها الطلاب هذه المعلومات في التحليل والتفكير والوصول في نهاية الأمر إلى رؤية عامة يتبنّاها الطالب. أدّت هذه الفلسفة التي يتّبعها المسيري في التقويم إلى اعتقاد الطلاّب بأن هذا تساهل في أمر الاختبارات لكن الحقيقة هي أن أستاذهم كان بالفعل قد قوّم طلابه واختبرهم أثناء تفاعلاتهم معه وفي الساعات الطويلة التي قضاها معهم في المحاضرات طوال الفصل الدراسي، وليس خلال ساعة أو ساعتين في نهايته.