عرفت جدة في تاريخها العديد من المشاهير في كافة المهن التي أدت دورها في المجتمع في كثير من التخصصات التي عزف عنها أبناؤها موخراً كالنجارة والحِدادة والبناء وصناعة الألبان والخياطة والتنّجيد ، كما عرف أن لكل مهنة شيخاً يرجعون إليه ، وحملت لنا الحكايات الكثير من المواقف الطريفة والنادرة لبعض هؤلاء التي تناقلها الناس وكانت حديث مجالسهم ، ومن ضمن المهن التي حازت انتباهي قبل ان ننتقل من حارة اليمن آنذاك الى خارجها ، مهنة المقرئين ، فلقد كان تجمع المقرئين في مقهى بادكوك على ناصية الشارع الجديد قريباً من بيتنا حيث كنت ألاحظهم بين العصر والمغرب يتسلون في طمأنينة وبعدها يقومون للصلاة في جامع العقيلي يقود بعضهم بعضاً حيث كان الفيضي والرقبان والعم عبدالله مراد وهم أشهر ثلاثة عرفتهم جدة القديمة يأتي إليهم الناس لإقامة العزاء على أمواتهم في الأيام الثلاثة بعد الوفاة وقد يقيم البعض مجلساً للقراءة في الأربعين أو في الحول أي بعد عام من تاريخ الوفاة. وكنت أعجب من الثلاثة يمشون ممسكين بعضهم بعضاً وكلهم ممّن فقد البصر يعيشون على ما يجود به أهل الميت من مكافأة بعد انتهاء العزاء الذي غالباً من يتطلب اثنين من المقرئين يتناوبان التلاوة من بعد صلاة المغرب إلى آذان العشاء وكانت مهنة تجعلهم يعيشون بالحدّ الأدنى من حاجاتهم وحاجات أسرهم ، وهذه مظاهر اختفت وحل مكانها التسجيل لبعض الوقت ثم جاء المقرؤون الوافدون بعد ذلك واليوم لم تعد تلك العادة معروفة إلا نادراً . ولكن الأكثر أهمية بين هؤلاء المقرئين كان الشيخ أحمد الزهراء كان رجلاً ضريراً كغيره من المقرئين عرفته جدة منذ مائة عام شيخاً جليلاً مميزا عن أقرانه فلقد كانت له حلقة للتدريس في مسجد الشافعي وهو أقدم مساجد جدة وكان -يرحمه الله- عالماً بالقراءات ولكنه يخشى إمامة الناس في الصلاة ، يعيش على ما يجود به الناس أهل مجالس العزاء وكان ذلك كافياً فقد كان يعيش وحيداً بلا زوجة أو ولد وقد جمع الكثير من هذا العمل حتى أنه اشترى ثلاثة بيوت كبيرة عبر سنوات تقع في مناطق تجارية وعندما اقتربت وفاته ، فاجأ الشيخ أحمد الزهراء أنه وهب كل بيوته الثلاثة إلى مدارس الفلاح وأوقفها عليها فختم الرجل حياته أحسن ختام إذ تنازل عن ماله الذي جمعه لعمل من أنبل الأعمال.