بقلم: صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية عندما أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مبادرته للمصالحة العربية في قمة الكويت العربية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية فإنها جاءت لتلبية الحاجة الماسة للأمة العربية لرص صفوفها وتوحيد كلمتها خلف قضاياها المصيرية لتمكينها من مواجهة التحديات الجسيمة التي تمر بها مستندة المبادرة على مبدأ الحوار نهجاً لتنقية الأجواء ودعم العلاقات البينية وتحقيق التضامن العربي والحفاظ على المصالح القومية العليا . هذه الدعوة لم تكن الأولى بل سبقتها رعايته حفظه الله للمؤتمر الإسلامي العالمي للحوار الذي انعقد في رحاب المسجد الحرام حضره ما يفوق 500 عالم إسلامي من مختلف أرجاء العالم بمختلف مذاهبهم الدينية ومشاربهم الفكرية . أعقبها تقدم خادم الحرمين الشريفين بمبادرته العالمية للحوار بين أتباع الديانات والثقافات والتي رعى جولته الأولى في العاصمة مدريد بمشاركة جلالة ملك أسبانيا خوان كارلوس ليخرج المؤتمر بتوصيات هامة تدعو إلى تكريس المبادئ الخيرة التي جاءت بها جميع الأديان ودعت إليها بوصفها أساساً ونبراساً لما ينبغي أن تبنى عليه العلاقات الإنسانية وقد حظيت هذه التوصيات وما اشتملت عليه من مبادئ سامية باهتمام ومباركة الجمعية العامة للأمم المتحدة في إعلانها الصادر عن اجتماعها عالي المستوى الذي عقد بمشاركة العديد من قادة دول العالم وزعمائه في منتصف شهر نوفمبر الماضي . والشواهد كثيرة لمبدأ الحوار الذي ينتهجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في سياسته الخارجية ومن بينها الحوار بين الفصائل الفلسطينية والدعوة للحوار بين العراقيين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم وغيرها.. هذه الشواهد وأن كانت تجسد بشكل واضح أهمية الحوار كأحد المبادئ الأساسية لسياسة المملكة الخارجية التي وضع أطرها جلالة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – فإنها باتت تشكل هاجساً كبيراً في وجدان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتستحوذ على حيز كبير من اهتمامه وتفكيره وذلك في ظل ما يشهده العالم من مستجدات ومتغيرات فرضت نفسها على العلاقات الدولية وأفرزت العديد من القضايا والمشكلات التي لم تعد منحصرة في إطارها القومي أو الإقليمي بقدر ما أضحت البشرية برمتها تعاني من هذه المشكلات في ظل التشابك والتداخل الكبير بين هذه القضايا وتعقيداتها ليس على الجوانب السياسية فحسب ولكن أيضاً الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والبيئية. خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تطور مفهوم سيادة الدولة وانتقالها جزئياً إلى المنظمات الدولية في ظل المعاهدات والاتفاقيات المبرمة التي باتت تؤطر لملامح حكومة عالمية تمارس الدول مبدأ سيادتها بأسلوب مشترك مع مجموعة دول العالم تحافظ فيها على حقوقها المشروعة وتتولى مسئولياتها واختصاصاتها في ظل منظومة دولية من المفترض أن تتسم بالتكامل والترابط وتحافظ على خصوصية الدول الثقافية وموروثها العقائدي . إن التداخل بين المجتمعات الإنسانية في ظل عالم أضحى يوسم بالقرية الكونية وحقيقة ما يشهده من اختلافات طبيعية للثقافة والمعتقد والموروث التاريخي والحضاري كما شاءت إرادة الله تعالى بخلقه من ذكر وأنثى وجعله شعوباً وقبائل هذا التداخل الكبير لم يفض إلى التصارع والتنازع بين الثقافات فحسب بل انتشر كالمرض الخبيث لينخر في جسد حتى أبناء الثقافة والجلدة الواحدة . ومع الإدراك أن النزاعات بين الدول والشعوب شكلت دائماً جزءاً من التاريخ الإنساني منذ عهد هابيل وقابيل غير أن عالم القرية الكونية جعل نتائج هذه النزاعات أكثر كارثية على البشرية وعمق بشكل كبير من معاناتها الإنسانية وانحسرت فيها مبادئ العدالة والإنصاف بين الغني والفقير وبين الأقوياء والضعفاء وبين الدول المتطورة والدول المتخلفة عن التقدم التي تسمى مجازا بالدول الأقل نمواً وبدأنا نشهد بروز قضايا جديدة تمثلت في الإرهاب الدولي والأزمة المالية وأزمة الغذاء وانتشار الأوبئة وغيرها من المشكلات . في ظل هذه المعطيات فإن النزاعات المسلحة والحروب لم تعد تشكل حلاً كما أن التعاون والتضامن والتنسيق بين الدول والشعوب لم يعد رفاهية بقدر ما أضحى ضرورة حتمية لا مناص منها وأن حل النزاعات الدولية سواء القائم منها أو ما قد ينشأ مستقبلاً لا ينبغي أن يتم إلا عبر الدبلوماسية التي يشكل الحوار قلبها النابض وذلك إذا ما أردنا أن نعيش في عالم أكثر أمناً واستقراراً وأن تتمتع البشرية بعيش أكثر رخاء وازدهاراً . ولم تقف رؤية وحرص خادم الحرمين الشريفين على مبدأ الحوار نهجاً لسياسته الخارجية بل يشكل مركز الحوار الوطني ترجمة فعلية لرغبته الجادة والصادقة نحو تكريس ثقافة الحوار بين المواطنين السعوديين بكل أطيافهم الفكرية الذي يهدف ليس فقط إلى تعزيز التلاحم بين القيادة والمواطنين في رسم سياسة الوطن وصياغة مستقبلية وفق رؤى وطنية تستند إلى تعاليم كتاب الله عز وجل وهدي نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بل تهدف أيضاً إلى تأسيس نموذج لثقافتنا الإسلامية الثرية وموروثنا الحضاري ليشكل قاعدة للانفتاح على العالم والاندماج معه في ظل ما يشهده من مستجدات ومتغيرات متسارعة .