«الحسكي».. مكونات سياحية بمحمية الإمام تركي بن عبدالله    ازدهار متجدد    5.7% زيادة بالأرباح الموزعة لأرامكو السعودية    مشروع رؤية 2030.. أول الغيث    «مطار القدّيّة»    9146 ريالا زيادة سنوية بنصيب الفرد من الناتج المحلي    مجلس الوزراء يقر إطار ومبادئ الاستثمار الخارجي المباشر    عن العرب الإسرائيليين    سان جرمان وبايرن يسعيان للعودة إلى سكة الانتصارات    التعاون في ضيافة ألتين أسير التركماني    بيولي: النصر يستهدف اللقب الآسيوي    موعد مباراة النصر القادمة بعد الفوز على العين    الفحوصات الطبية تحدد موقف لودي من لقاء الاتفاق    وزير الحرس الوطني يصل إلى كوريا في زيارة رسمية    الحوادث المرورية.. لحظات بين السلامة والندم    الزائر الأبيض    تبكي الأطلال صارن خارباتي    سلام مزيف    فلسفة الألم (2)    الممارسون الصحيون يعلنون والرقيب لا يردع    د. الذيابي يصدر مرجعًا علميًا لأمراض «الهضمي»    انقطاع نفس النائم يُزيد الخرف    15 شركة وطنية تشارك بمعرض الصين الدولي للاستيراد    الصناعة: فوز11 شركة برخص الكشف بمواقع تعدينية    وقعا مذكرة تفاهم للتعاون في المجال العسكري.. وزير الدفاع ونظيره العراقي يبحثان تعزيز العلاقات الدفاعية وأمن المنطقة    أمير الشرقية يستعرض استراتيجية محمية الملك عبدالعزيز    القيادة تهنئ رئيسة مولدوفا    المنتخب السعودي .. وواقعية رينارد    فالنسيا تعلن فقدان أثر 89 شخصاً بعد الفيضانات في إسبانيا    Apple تدخل سوق النظارات الذكية لمنافسة Meta    محمية الغراميل    اتفاقية بين السعودية وقطر لتجنب الازدواج الضريبي.. مجلس الوزراء: الموافقة على الإطار العام والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    ثري مزيف يغرق خطيبته في الديون    الألم توأم الإبداع (سحَر الهاجري)..مثالاً    مجلس الوزراء يستعرض مسارات التعاون والعمل المشترك مع دول العالم    أول قمر صناعي خشبي ينطلق للفضاء    دشنها رئيس هيئة الترفيه في الرياض.. استديوهات جديدة لتعزيز صناعة الإنتاج السينمائي    يا كفيف العين    اللغز    خبراء يؤيدون دراسة الطب باللغة العربية    رأس اجتماع مجلس الإدارة.. وزير الإعلام يشيد بإنجازات "هيئة الإذاعة والتلفزيون"    عبدالوهاب المسيري 17    إلزام TikTok بحماية القاصرين    أداة لنقل الملفات بين أندرويد وآيفون    همسات في آذان بعض الأزواج    الاحتلال يواصل قصف المستشفيات شمال قطاع غزة    X تسمح للمحظورين بمشاهدة منشوراتك    معرض سيتي سكيب العالمي ينطلق الاثنين المقبل    تأثيرات ومخاطر التدخين على الرؤية    التعافي من أضرار التدخين يستغرق 20 عاماً    رئيس هيئة الترفيه يدشّن استوديوهات «الحصن بيج تايم» في الرياض    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    أبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بخريطة "إنها طيبة"    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الأميرة مضاوي بنت تركي بن سعود الكبير    أمطار غزيرة متوقعة على جنوب المملكة وسحب رعدية في مكة    كلمات تُعيد الروح    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في نص (موجة حمام) لحميدي الثقفي (1-2)
نشر في البلاد يوم 07 - 04 - 2019

إنَّ محاولة تقديم قراءةٍ تأويليةٍ لأي نصٍّ متجاوزٍ كالنصِّ الذي بين أيدينا أعلاه-عمليةٌ شاقةٌ محفوفةٌ بالمخاطرة، وهي مجازفةٌ قلَّما ترضي عشاق النصِّ لأنَّهم يرون فيها افتئاتًا على الشعر والشاعرية؛ ويجدون فيها عادةً تحجيمًا لامتدادات النصِّ، وخطوط طوله وعرضه الإبداعية.نحن إزاء نصٍّ بهيٍّ لا يعترف بالتواضع قيمةً؛ فيما حمله من صورٍ ودلالاتٍ ورموزٍ تتراى؛ وجميعها تَحُولُ كثيرًا بين ذلك النص، ومحاولات القبض على معنى عامٍ له، وتجعل القبض عليه أصعب من القبض على الجمر، وأشد تحديًا من القبض على الماء.ولعل من الموافقات أوالمفارقات العجيبة أنَّ نجد “الجمر” و”الماء” معًا حاضرين في هذا النصِّ: “نار مشعلة” و “هديل البحر”!ولعلَّه من نافلة القول تذكير القارئ الكريم بأن ما أطرحه هنا يمثل فقط فهمي الشخصي؛ وليس بالضرورة ما قصده الشاعر، وأنَّ قابلية النصِّ لتعدد الرؤى والقراءات تمنحه رونقًا وخلودًا، ومزيدًا من الجمال.
يتهيأ لي أن العتبة الرئيسة التي يمكننا أن نلج من خلالها لقراءة هذا النص هي مطلعه؛ أول بيتٍ فيه، وتحديدًا شطره الأول:” رفرفت في بالي اوراق بيضا مهملة”تلك الأوراق ناصعة البياض التي رفرفت في بال الشاعر، ترمز وتشير لبدء تلبس الشاعر بحالةٍ إبداعيةٍ تناديه قائلة “هيت لك”، “هيا اكتبني”! تراوده عن نفسه، تريده أن يملأ بياض ذلك الورق بسواد حبرٍ/قصيدةٍ تليق به، وتستحق شرف فضِّ بكارته.
والشطر الثاني من البيت نفسه يؤكد ببلاغةٍ فائقةٍ ذلك:” واشتهى صمت ابيض الجوع تفاح الكلام”وماذا عسى أن يكون “تفاح الكلام” المشتهى من قبل “صمت ابيض الجوع”،سوى كلمات /أبيات القصيدة، وما تحتويه من كلماتٍ وصورٍ ومعانٍ تملأ بياض الورق؟ونلحظ هنا أنَّ الشاعر أنسن الورق، وجعله يشعر بالجوع،ويحس به.أليس المبدع من يعيد تشكيل العوالم، وبناء علائقها بعضها ببعض مجددًا وفق رؤيته؟وإذا كانت التفاحة الواحدة كفيلةً عادةً بسدِّ رمق جائعٍ، فما بالنا بجمعٍ من ال “تفاح”؟ أظنه يكفي لإشباع جوع بياض ورقةٍ بل وأكثر من ورقةٍ.واستخدام الشاعر هنا لمفردة “تفاح”؛
لم يأتِّ اعتباطًا، فالتفاحة مكتنزةٌ بالحمولات والدلالات في التراث البشري، والثقافة الإنسانية منذ لحظة الخلق الأول، حيث وسمها البعض بأنَّها رمز الخطيئة؛ وأنَّها ثمرة تلك الشجرة المحرَّمة التي أكل منها أبونا (أدم) وأمنا زوجه؛(حواء)في الجنَّة بإغواءٍ وإغراءٍ مقصودين من (إبليس)، وبسببٍ من تلك الخطيئة كان قدر الثلاثة؛ أدم وحواء وإبليس الطرد من الجنَّة، والهبوط مرغمين إلى الأرض.إنَّ ثمَّة علاقةٌ بين الخطيئة التي يرمز ويذكر بها “التفاح”، وبين القصيدة بشكلٍ أو بآخر، فإذا كانت الخطيئة كسرًا ل “تابو” من نوعٍ ما، فالقصيدة المبدعة والمتجاوزة عادةً ما تكون رفضًا لواقعٍ ما، وتجاوزًا لخطٍ أو لعدَّةِ خطوطٍ حمراء.
البيت الثاني أظنه يصف حالة الشاعر قبيل أن تتلبسه تلك الحالة؛ فقد كان ساهيًا لاهيًا مثله مثل طفلٍ يلهو ببناء بيتٍ من رمال على الشاطئ؛ يقيمه تارةً، ويهدمه تارةً أخرى حتى أتته موجةٌ مندفعةٌ من البحر، وطوحت بكل ما كان يشغل به نفسه بعيدًا هناك.هو المبدع بريئًا مثله مثل طفلٍ حتى تتلبسه الحالة الإبداعية؛ لحظة إلحاح وإصرار القصيدة عليه أن يكتبها، فتنقله من عالمه العادي؛عالم العادية والألفة مع (من) ومع (ما) حوله، لتحيله إلى شيطانٍ في يد ساحرٍ يسخره كيف يشاء، أو إلى ساحرٍ تتلو عليه الشياطين كتبها،
وتتحكم به، فالأمر سيانٌ، وكلُّ ذلك يجعل من الشاعر نسخةً مطورةً من قول جده أبي العلاء المعري:”وإِني وَإِن كنت الْأَخير زمانه لآتٍ بما لم تَسْتطعه الأوَائل”وهذا أمرٌ يذكرنا بأسطورة “وادي عبقر” الذي يستمد منه الشعراء إلهامهم من جِنِّه وجِنِّياته، كما يذكرنا أيضًا-ونحن في حضرة نصٍّ شعبيٍ-بالأسطورة الشعبية (السقوة)؛ جنِّيةٌ أنثى فاتنةٌ تأتي الشاعر ليلًا، وتسقيه حليبًا، يصبح بعده من الشعراء الذين لا يشق لهم غبارٌ! وللجنَّ (مجازًا) فضل نقل المبدع من البراءة إلى الشيطنة، وعليهم في الوقت نفسه وزر وتبعات تلك النقلة.
يستوقف المتأمل في النصِّ قول الشاعر:” في هديل البحر واصطادته موجة حمام”،عملية تغيير الموافقات المألوفة بين الكلمات، فالهديل عادةً ما يكون اسمًا لصوت الحمام، والموج في الأصل من حركات البحر، ولكن الشاعر الذي يعيد بناء العوالم، وتشكيل العلاقات -كما أسلفت-، فهو في الوقت نفسه، وبنفس المقدرة يطوع اللغة، ويفجر طاقاتها، ويغير من استخداماتها المألوفة تركيبًا ومعنىً، ويقلبها أحيانًا رأسًا على عقبٍ وهذا أمرٌ يعرفه النقاد ويسمونه ب (تراسل الحواس)، ويضربون له مثلًا شهيرًا بقول “جبران خليل جبران” في قصيدته “المواكب”:هل تحممت بعطرٍ .
وتنشفت بنورٍوشربت الفجر خمرًا … في كؤوس من أثيرٍ؟فحاسة اللمس عند “الاستحمام”، انتقلت إلى حاسة شمٍّ ل “العطر”، وحاسة البصر ل “النور” استحالت إلى حاسة لمس ل “التنشف”، وحاسة الذوق عند “الشرب” غدَّت حاسة إبصارٍ ل كؤوس أثيرٍ”. وشاعرنا يوظف تراسلًا من نوعٍ مغايرٍ نوعًا ما بين “هديل” الحمام و”موج” البحر جاعلًا كلًا منهما للآخر.
وإذا كان الشيء بالشيء ُذْكَرُ ويُذَكِرُ فإن شاعرنا في نفس القصيدة جعل ل (الصيف) الذي هو موسمٌ زمنيٌ (حانةً) وهي مفردةٌ تعني في العامية مكانًا لبيع المشروبات! وفي ظني أن تغيير العلاقات بين المفردات هنا، جاء تماهيًا مع حالة الاضطراب والارتباك التي تملكت الشاعر عندما دعته القصيدة أو لحظة كتابتها. فهو لم يعد -هو- قبل تلك الحالة، وبالتالي فلن يأتي بالمفردات كما جرى العرف والتقليد، فالحالة أخرجته عن المعتاد، ولهذا أخرج المفردات عن المألوف، وكأني بلسان حاله يقول:”واحدةٌ بواحدةٍ، والبادي أظلم”! والحمام رمزٌ للسلام والسكينة،
كما أنه رمزٌ للحب والوفاء.. فلاق / ناسب أن يكون هو من اصطاد الطفل رحمةً به ولطفًا. ثمَّ أنَّ اختيار طيور”الحَمَامِ” دون غيرها، مقصودٌ من الشاعر،ليخدم غرضه، فلحظة التلبس تأتي ابتداءً مخاتلةً مخادعةً وموهمةً للشاعر بالأمن والأمان، والسلامة والدِّعة، وكل ذلك من تداعيات ومعاني “الحَمَامِ”.
وتطويح موجة “الحَمَامِ” بلهو الطفل البريء على الشاطئ يوازي نقل الشاعر من حالته الإنسانية المعتادة إلى حالة عراكٍ مع لحظة / لحظات إبداع / إنتاج نصٍّ. وإن كان الطفل قد بكى على بيته الذي طوحت به الموجة بعيدًا، فالشاعر ربَّما يبكي “مجازًا” أيضًا على لحظات الهناء المتمثل في العادية وراحة البال، قبل أن تصطاد فكره ووجدانه جنيات عبقرٍ!وللقراءة بقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.