كثيرون يظنون أن حياة الإنسان تتعطل بعد سن التقاعد ، وآخرون يرونه بداية حياة جديدة وفرصة لعطاء آخر اختياري ودور جديد في الحياة، يتناسب مع قدراته وخبراته، وينعم براحة النفس بعد سنوات طويلة من معاركة الحياة، وكما تقول العبارة المأثورة " الحياة تبدأ من الستين" وبين الحالتين تبدو اشكالية البعض مع انعكاسات التقاعد عليهم. فهل حقا نعاني كأفراد وأسر من ارتباكات حياتية بعد التقاعد ؟ ولماذا لايتم الاستفادة من مخزون خبرات المتقاعدين فى تنمية المجتمع ، وأين برامج جمعية المتقاعدين لخدمة هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع؟ّ!. قبل أيام حرصت (البلاد) على قضاء ساعات صباحية مع عدد من المتقاعدين من رواد منتدى نادى أبها الأدبي خلال جلسة صباحية ، ورصدت آراءهم وحكاويهم عن تجاربهم الحياتية والأسرية في هذه المرحلة ، كما رصدت آراء عدد من المهتمين بشؤون وشجون التقاعد. اللواء متقاعد خالد شائع يروي تجربته قائلا : عملت أكثر من ثلاثة عقود ولله الحمد واغلبها في مراكز قيادية في الدولة ، آخرها مديرا لجوازات منطقة نجران ، ووصلت للتقاعد بقناعة ، وحاليا اقضي مع مجموعة من الأصدقاء من مدنيين وعسكريين وقتا جيدا في منتدى نادي أبها الأدبي، وأحيانا أسافر لزيارة أبنائي وأقضي معهم وقتا مبهجا. وعن جمعية المتقاعدين قال: نتطلع حقا أن تبادر الجمعية بمبادرات وخدمات وأن تقدم مزايا للمتقاعدين واتفاقيات مع الجهات الخدمية العلاجية وأماكن السفر وغير ذلك من استحقاقات لهم في هذه المرحلة من حياتهم. كما تحدث الدكتور فهيد السبيعي متقاعد من جامعة الملك خالد قائلا : الحمد لله أقضى وقتى منشغلاً بالمفيد حيث أُسافر داخل وخارج المملكة ولكن نطمح من المؤسسة العامة للتقاعد إيجاد خدمات مميزه للمتقاعدين على الأقل من باب الوفاء لمن أمضوا حياتهم فى خدمة العمل. ويضيف:وطننا هو الحاني على أبنائه وبناته ونحن في عسير وخاصة مدينة أبها نقدر لنادي أبها الأدبي كل ما يقدمه للمتقاعدين صباحاً ومساءً ، ويدعوهم لمحاضراته لكن نتمنى ان يكون هناك ديوانيات للمتقاعدين بهدف الاستفادة منهم في استشارات تتعلق بالمنطقة ولو بالمجان خاصة من كان في مواقع المسئولية. وعن تجربته مع التقاعد تحدث ل" البلاد" الأستاذ إبراهيم محمد اللوذ الأمين العام لإدارات التعليم بعسير سابقاً فقال:التقاعد حياة أخرى لها مميزاتها ليستريح الانسان بعد سنوات طويلة من العمل ويكون لديه فرصة لمراجعات حياتية هادئة لم تتوفر له في زحام العمل والحياة قبل التقاعد، لكن الإشكالية تكمن في أن المتقاعد غالبا لايجد أى تعاون عندما يحتاج إلي خدمة من الإدارات الحكومية، علاوة على المعاناة في الحصول على العلاج ولا سيما الأمراض المزمنة كالضغط والسكر والقلب وغيرها ولامزايا في تذاكر الطيران ، مضيفاً :" ترددت أنباء عن إنشاء أنديه للمتقاعدين ولم يتحقق منها أى شىء للأسف حتى جمعية المتقاعدين عجزت إن تصل لخدمة المتقاعدين. جوانب أخرى للصورة من جانبها أشارت سارة احمد – موظفة في قطاع حكومي- إلى أهمية أن يفهم المتقاعد قدراته وطاقاته قبل اتخاذ هذا القرار، وهل يستطيع البقاء بالمنزل والابتعاد عن العمل ، أو البدء بمشروعه الخاص الذي خطط له سنوات طويلة، مُضيفةً أن هناك من يُفضِّل العمل في القطاع الخاص والشركات، وهناك من يرغب في الأعمال الاجتماعية والتطوعية، فيعرض خدماته على الجمعيات الخيرية لتقديم استشارات وتدريب وتأهيل الشباب. وأوضحت أنَّ ذلك كلَّه يعود للشخص نفسه وذكائه وطريقة اختياره، موضحةً أنَّه يمكنه أيضاً أن يلعب دور الداعم على مستوى الأسرة، إلى جانب الانخراط بالمجتمع، خصوصاً الأصدقاء المتقاعدين الذين مرّوا بهذه التجربة، وكذلك تنظيم فعاليات وأنشطة خاصة بهم.وقالت لطيفة محمد متقاعدة من وزارة التعليم: كثيراً ما يكون الشخص أسير عمله فيعتاد عليه ولا يستطيع أن يفارقه، فبعضهم ما أن تنتهي سنوات عمله ويحال إلى التقاعد ، سرعان مايصاب بتغيرات نفسية ومتاعب جسدية نظرا لاعتياده على الحركة والدوام المنتظم واجواء العمل والزملاء والتعامل مع عدد كبير من الناس ، فيفتقد كل ذلك مع التقاعد وتكون الحياة فى غاية الصعوبة مع تقدم السن . وبالنسبة لي فأنا ولله الحمد سعيدة في هذه المرحلة الحياتية مع أسرتي. ديون وأعباء حياة جانب آخر له تأثيره لدى شريحة المتقاعدين يطرحه حسين البشري- متقاعد من قطاع وزارة الداخلية : البعض يشعر بالضيق حينما يُسأل عن كيف سيقضي وقت تقاعده، لكنه قد يقول بينه وبين نفسه "وكيف أسدد ديوني؟ خاصة عندما تكون ديونه نتيجة الصرف العشوائي غير المنظم حينما كان يعمل بالوظيفة ، إلى جانب عدم ادخاره شيئاً من ماله لمثل هذا اليوم، مُبيّناً أنَّ هناك من يلوم غيره بسبب قلة دخله، بينما المُلام الأول والأخير هو هذا الشخص، إذ إنَّه هو المسئول عن ثمرة تعبه التي عمل عليها أيام شبابه وصحته ، ويتابع :"يحتاج المتقاعد لتجديد الروتين اليومي وتحديث علاقاته الاجتماعية باستمرار وشغل فراغه بالمفيد والراحة بعد سنوات الكفاح". باب للمشكلات ! صورة أكثر صعوبة في حياة البعض بعد تقاعدهم ، يشير إليها علي الألمعي موظف بالقطاع الخاص – فيقول: تتغير طبائع الكثيرين بعد التقاعد، حيث تعايشوا مع ماكينة العمل لأكثر من ثلاثة عقود متصلة ، وفجأة يتغير دولاب الحياة اليومية فلا دوام وعمل ولا مشاغل وعادات اعتادوا عليها يوميا كجزء من مجتمع العمل والزمالة والصداقة ، والبعض منهم لايدري شيئا عن تفاصيل البيت ، وفجأة يصبح ملازما له بعد التقاعد فيشعر أن حياته توقفت وفقد أسلوب ونمط حياة أخذ معظم سنوات العمر وأجملها. ويضيف : من هنا أتصور أن التقاعد بالنسبة للبعض هو بوابة المشاكل مع أسرته ، فتجده يتدخل في أشياء لم يكن يسأل عنها ولايدري بشأنها شيئا ، ومنهم من يلاحق زوجته وأولاده بالأسئلة عن كل شيء حتى عن عدد الملاعق والسكاكين ، واللمبات المضاءة وغير ذلك من تفاصيل ، كثيرا ماتسبب ضجرا وخلافات داخل أسرته، فيطالبونه بالبحث عن عمل آخر أو زوجة أخرى أو يشغل نفسه مع أصحابه بمقهى ولعب بلوت أو ينشغل بشبكات التواصل. الحل في الأندية من جانبه يقول فهد مداوي – متقاعد : للأسف لا يوجد من يساعد المتقاعدين بعد تغيّر نظامهم الوظيفي، فلو كانت هناك أندية خاصة لهذه الفئة تحتوي على نشاطات ترفيه تتناسب مع ميولهم ومواهبهم لوجدت الكثيرين يميلون إلى التقاعد والابتعاد عن العمل والإرهاق، فنحن نحتاج إلى ملاعب جولف وركوب الدراجات الهوائية، وأندية ثقافية ،وأخرى لمحبيّ السيارات القديمة، وهناك أكثر من فكرة وفكرة للتقاعد، لكن الكثير يفضلون البقاء في دائرة الحزن والاكتئاب" رغم قدراتهم. وأخيرا مع شهد عبد العزيز – موظفة سابقة – والتي تؤكد أنَّ قيمة الشخص فيما يعمل، وتهتز هذه القيمة بعد التقاعد، مُضيفةً أنَّ عمل الموظف سنوات طويلة برتابة وروتين معين قد يُسبب له صدمة في بداية التقاعد، خصوصاً لمن اعتاد على العمل والحركة والتعامل مع بداية الصباح مع مجتمع واسع من الزملاء والمراجعين والانشغال بمهامه ساعات الدوام ، وحتى الشباب الذي لايجد وظيفة ، عادة ما يتعرضون للانطواء على أنفسهم ، خاصة وأن خبراتهم الحياتية تكون متواضعة، وهنا تبدو أهمية الفائدة والقيمة للعمل والبذل ومسؤوليات يقوم بها في حياته، وهذا لايعني أن التقاعد هو نهاية لكل ذلك ، إنَّما فقط يشكل تحديا لقدرة الشخص على تنظيم حياته والتخطيط لها مبكرا، وهو أيضا فرصة سانحةً لمزاولة الهوايات المفضلة بحريَّة مطلقة. دراسة تستحق الاهتمام في هذا السياق نشير إلى دراسة سابقة قدمها الدكتور علي السلطان، وإبراهيم بن عمر من معهد الإدارة العامة بالرياض، بعنوان "المتقاعدون في السعودية.. دراسة أوضاعهم وإدارة خدماتهم والاستفادة من خبراتهم"، أوضحت أنَّ (58%) من المتقاعدين يملكون مساكنهم، وأنَّ (40%) مساكنهم مستأجرة، الأمر الذي يثير عددا من الأسئلة حول ما إذا كان السبب هو سوء التخطيط للتقاعد أو ضعف الرواتب المستحقة أو ارتفاع سعر العقار الذي لا يتناسب مع دخل الفرد. وبيَّنت الدراسة أنَّ (69%) من المتقاعدين لا يوجد لديهم أيّ نوع من العمالة المنزلية، على الرغم من الحاجة الماسة إليها، نظراً إلى عمر المتقاعد، وأنَّ (20%) منهم لديهم عامل أو عاملة، وأنَّ (1%) فقط منهم يتوفر لديهم أكثر من ستة أفراد من العمالة المنزلية، وأنَّ (70%) من المتقاعدين تقريباً يتوفر لديهم سيارة واحدة، وأنَّ (15%) منهم لديهم سيارتان، وأن (1%) منهم لديهم خمس سيارات فأكثر.