في كلمته التي افتتح بها أمسيته في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة قبل ثلاثين عاما، يقول نزار قباني- يرحمه الله- يتراكض الشعراء في إأقة حي الحسين أولادا يبحثون عن طفولتهم وعن أحلامهم القديمة وألعابهم القديمة وفوانيسهم القديمة، ويمضي في شاعريته التي أدهشت الحضور، قائلا: نتكئ على صوت سيد درويش المكتظ بنار التحولات لنعلن استمرار النشيد وحتمية انتصار الأغنية البيضاء" كنت قد وصلت القاهرة بدعوة من صديق كريم، تذكرت هذا الخطاب لنزار، وانا أقف في طابور الجوازات في مطار القاهرة منذ أسبوع، وقد عدت إليها بعد غياب خمس سنوات، وبعد أن تغير الكثير على المسرح السياسي والاقتصادي في هذا البلد العزيز علينا جميعا، وتذكرت في هذه الزحمة شعرا شعبيا حفظته عن د0سعيد السريحي.. مصر ناس تملأ الشوارع فيهم الواصل قوي واللي أتولد والبخت ضايع… فيهم إللي يعرف اسمك قبل تقول له عليه.. واللي لما تسأله عن اسمه ما يعرف يجاوب.. مصر حلوة يمكن أحلى من باريس ..مصر لما تشوف جمالها تحس إن الدنيا غنوة وأنك انت اليوم عريس .في هذه الرحلة أحسست أن شيئا أصبح مفقودا عندي مما تعودت أن أشعر به كلما هبطت مصر، كأني فقدت كتابا ممتعا، أو أضعت مفتاح بيتي. نعم وبكل تأكيد فالحاسة السادسة عندي تنبئ بأن الايام تخبئ رياحا، وأرجو أن لا تكون عاتية، فهذا سعر صرف الجنيه وقد بلغ منتهاه في الانخفاض، وهذه الوجوه التي كانت تقابلك بالنكتة والابتسامة رأيتها اليوم، وكان عليها غمامة التساؤل عن المستقبل، وما تخبئه الأيام. حزنت لذلك الرجل في جلابيته الذي رده البائع على مرأى من الزبائن، عندما أراد شراء حاجته، ومعه جنيه واحد، عاد منكسرا ينظر إلى راحته، التي استقر الجنيه بها ولسان حاله كانما يعاتب الجنيه قائلا : لماذا خذلتني ؟ كأنما عاش الرجل رغدا وترفا مع الجنيه في سنين حياته الماضية، واليوم يتنكر له البائع حتى في أبسط متاجر الحي، ويستمر نزار في خطاب افتتاح أمسيته ( جميعنا يدرك استحالة التاريخ العربي بغير مصر، واستحالة مصر بغير تاريخها العربي ) مصر الكيان الكبير الذي مر بالكثير من الهزات السياسية والاقتصادية، تمر اليوم كذلك بصعوبات اقتصادية، ندعو الله أن يخرجها منها قوية، لتكمل دورها العربي ومسؤوليتها التاريخية في الوطن العربي، وتعود كما عرفناها؛ مصر طه حسين والعقاد وشوقي، مصر محمد رفعت وعبدالباسط عبد الصمد والمنشاوي، مصر يوسف وهبي وفريد شوقي ومحمود المليجي، مصر أم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش ، مصر الغزالي والشيخ شلتوت وعبدالحليم محمود، مصر التي في خاطرنا جميعا.