الكثير من الذكريات تلتصق بالروح وتسكن التكوين وتصبح دفء القلب والملاذ الذي نرسو فيه بعد عناء السفر ومتغيرات الحياة التي تلاحقنا كشيء يطرق دواخلنا و" جدة " التي لا نمل عن الحديث عنها كرحلة سفر أزلية .. ولا زلنا نذكر تفاصيلها ونحكي عنها .. نشعر وكأننا عشناها قبل سويعات قليلة مضت ، أنها قصص وروايات المكان الجملية التي ورثناها عن الأجداد والآباء ونورثها للأبناء وهكذا .. وكان لزاماً عليَّ أن أبوح ولو بقليل مما أحمله لهذه المدينة الحالمة التي عشتُ وترعرعتُ بين أزقتها وعانقت عيناي رواشينها وامتلأت رئتاي من هوائها العليل ، يذكر علماء النفس أن التكوين الإنساني يتأثر إيجابياً بالبيئة التي ينشأ فيها الإنسان، وأن هذا التكوين لا يمحي من الذاكرة ويظل لا يراوح مرحلته الطفولية مهما بلغ الإنسان من العمر. وجدة العشق الأولي والبساطة بكل ملامح الإنسانية التي مرت علينا أطفالاً تظل هي جدة الساكنة في أعماقنا حتى ولو كبرنا نظل أطفالها وتظل أمَّنا التي حنت علينا صغاراً ورعتنا شباباً وأكرمت أبائنا وأجدادنا ، هي الامُ الرؤوم التي نشأنا على عينيها. بلمحة سريعة كشريط مصور نرى العمران يغشى مدينتنا الحالمة شرقاً وشمالاً وجنوباً بخطى متسارعة ما يطرح تساؤلاً مهماً لماذا جدة بالذات تهفو إليها القلوب من كل حدب وصوب؟، ليأتيك الجواب على ألسنة الكثير أن من يسكن جدة لا ينوي مغادرتها فقد منحت من سكنها عشقاً روحياً قلَّ أن تمنحه مدينة أخرى لساكنها. وجدة اليوم هي امتداد لجدة الأمس التي استحقّت لقب عروس البحر الأحمر لأنّها استطاعت أن تنهض بمدينتها القديمة إلى مدينة كبيرة ومتطورة ذات نماء اقتصادي مبهر، فجدة حيوية في كافة مجالاتها التّجارية والخدمية والصّناعية والسّياحية . وجدة اليوم و المتطورة هي عريقة بأصلها فبمساحتها الكبيرة لم تتخلّ عن حارتها القديمة الأصيلة ، فرائحة تراث جدة القديم ما زالت تسطّره وتشهده حاراتها القديمة كحارة اليمن وحارة البحر ، وحارة الشام وحارة المظلوم التي تعتبر قلب جدة التاريخية اليوم والتي تشهد على عراقة وأصالة هذه المدينة الفاتنة . [email protected]