المحصلة النهائية للتطورات الميدانية على الساحة الفلسطينية، وما شهدته خلال الأيام القليلة الماضية من حملة اعتقالات وقصف إعلامي متبادل بين قطبي الساحة الفلسطينية " فتح " و " حماس " ، لم تقتصر فقط على فضح وتعرية الوضع الفلسطيني، حيث العمى الإستراتيجي، وانعدام المسئولية، والاحتكام للعواطف أو الغرائز، والأهم نسيان العدو الأساسي، أي الاحتلال الإسرائيلي، فضلا عن انشغال أو تورط " الجزء المعسكر " من الجسد الفلسطيني في مواجهة الداخل فقط، أي في مواجهة الشعب الفلسطيني، وذلك في ظل طروحات التسوية، ومن ثم المفاوضات في رام الله، والتهدئة، ومن ثم وقف إطلاق الصواريخ في غزة . لم تقتصر المحصلة النهائية على ما تقدم، رغم فداحته، وإنما تعدت ذلك بكثير؛ إذ ما حدث مؤخرا قد يمثل بداية النهاية لفكرة التعايش بين تيارين فلسطينيين متعارضين، استهلكا على مدار السنتين الماضيتين جميع أشكال الوساطات الوطنية والعربية والإسلامية، ووصلا إلى حد القطيعة أو نقطة اللاعودة، والتي تعني عمليا فك الارتباط التام بين جناحي الدولة المفترضة، وفقدان الصلة العضوية مع الجمهور الفلسطيني الموزع بين أصقاع الأرض . وقد يمثل ذلك في حده الأدنى بداية لمرحلة جديدة تصبح فيها إراقة المزيد من الدماء استحقاقا ضروريا لاستئناف الحوار، وشرطا لا غنى عنه لإنضاج شروط المصالحة، بعد أن بات من الواضح تماما أن الطرفين المتصارعين ليسا في عجلة من أمرهما، وأنهما ينتظران تعزيز أوراقهم التفاوضية قبل الجلوس على مائدة الحوار والمصالحة، وأن كلا منهما يسعى لتثبيت دعائم سلطته وصورته، ويراهن على قادمات الأيام وما تحمله بين ثناياها من تطورات . وفي كلتا الحالتين لم تعد الأزمة الفلسطينية تراوح في ذات المكان الذي كانت عليه عشية وقوع ما أسمته " حماس " بالحسم العسكري في يونيو 2007، بل ثمة انحدار وتراجع جديدان في العلاقات الفلسطينية البينية . والشاهد على هذا التراجع ( عن التراجع الحادث أصلا بالانقسام ) أن مفردات من طراز " الإفراج عن المعتقلين " ، و " حرية الناشطين " أصبحت ملتبسة، فلا ندري لأول وهلة عمّا يتحدث هؤلاء، عن فلسطيني يعتقل فلسطيني، أو عن سلطات الاحتلال التي تعتقل الجميع وتعاقبهم بالجملة . كذلك بدا مشهد تبادل الاعتقالات بالمئات بين الضفة وغزة خلال الأيام الماضية كمشهد عجيب من طراز الكوميديا السوداء التي تنتهي إليها عادة الشعوب التي فقدت رشدها السياسي، وارتهنت زعاماتها لأدبيات الفصائلية والقبلية، وثقافة الإقصاء، بدلا من التكامل والتداخل . المقصد إذن أن ما حدث مؤخرا، وبغض النظر عن توصيفه، والاختلاف الوارد بشأن ذلك بين المراقبين والمحللين، ترك بصماته الواضحة على الجسد الفلسطيني المنشطر، وأثار التساؤلات والتكهنات بشأن تداعيات ما حدث ويحدث على الاجتماع السياسي الفلسطيني، والحدود التي يمكن أن يصل إليها الخلاف والصراع بين قطبي الساحة الفلسطينية، والطريقة الأنجع لردم الهوة بينهما، كما أشار إلى مجموعة من النتائج والاستنتاجات، من أهمها : بين المصالحة والعمل السري أولا : أن المشهد الفلسطيني بكل معطياته الداخلية وأبعاده الإقليمية والدولية، فضلا عن معطى الاحتلال، ومحاولاته الحثيثة لتعميق الانقسام وإذكاء الاختلاف والاحتراب الداخلي، إذا لم يتقدم عاجلا للأمام على طريق الحوار والمصالحة، فلن يظل على حاله حيث الانقسام الحاصل الآن ومنذ يونيو 2007، ولكن سيتراجع إلى الوراء على طريق الاقتتال والاحتراب الداخلي، وإن بشكل مختلف هذه المرة . وتتعزز احتمالات هذا الاعتقاد مع اقتراب بعض الاستحقاقات من نوع : انتهاء ولاية أبو مازن، واحتمال إبرام صفقة جلعاد شاليت، وما يمكن أن تسفر عنه جولة المحادثات الراهنة في واشنطن ( كونها، على ما يبدو، آخر محاولة لاستطلاع فرص التوصل لاتفاق نهائي في عهد بوش الابن ) . وفوق ذلك كله فإن الأولوية الآن على أجندة فتح وحماس ليس مصير التهدئة، وليس انهيار المفاوضات بين السلطة وإسرائيل، وإنما الصراع على المكانة الأولى، ومن هو صاحب القرار على الساحة الفلسطينية، وإلا فما المغزى من وراء تصريحات حماس بأنها لن تعترف بمحمود عباس رئيسا بعد انتهاء ولايته في التاسع من يناير القادم؟ ! وما المغزى أيضا من وراء رد دوائر التشريع وتفسير القوانين المقربة من السلطة بأن ولاية أبو مازن تنتهي مع ولاية المجلس التشريعي في 25 يناير 2010؟ ! ثانيا : إذا تطورت المواجهات في جولة قادمة، فلن تكون مواجهة مكشوفة على الطريقة التي شهدناها سابقا، بل سرية، تنكر فيها الأطراف أنها أصلا طرف فيها؛ وذلك مخافة أن يرى جمهورها بأن أيديها ملطخة بدماء شعبها . بعبارة أخرى، الطريقة التي تمت بها تفجيرات يوم 25 يوليو الماضي، والطريقة التي تعاطت بها حماس وفتح إزاء تلك التفجيرات، قد تشكل بداية جديدة لصراع من نوع مختلف، والانتقال إلى طور جديد من المواجهة؛ حيث " العمل السري " الذي لم تلجأ إليه فتح طوال عام على هزيمتها أمام حماس، بكل ما يحمله هذا التطور من مخاطر واحتمالات لانهيار الأوضاع في غزة، والتورط في عمليات تصفية متبادلة . وهذا بالتبعية سيؤدي إلى انصراف اهتمام كلتا الحكومتين نحو الجانب الأمني المتعلق بالحفاظ على السلطة، بدلا من التفرغ لمواجهة العدو، وفي ذات الوقت سوف تكون الساحة الفلسطينية مهيأة أكثر من أي وقت آخر لجرائم يرتكبها الاحتلال وعملاؤه، مستغلا سلسلة الاتهامات والمواجهات المتبادلة بين فتح وحماس، وتسجل هذه الجرائم فيما بعد تحت عنوان " الثأر " المتبادل بين حركتي فتح وحماس، وحينها ستصل الأمور لنقطة اللاعودة؛ لأن الإمعان في هذه السياسات سيؤدي بالضرورة إلى حالة اشتباك جديدة، يخسر فيها الجميع أكثر مما يمكن أن يتخيله أحد، فلا حماس ضعيفة في الضفة، وهي التي ما زالت قادرة على إرسال مجموعاتها لضرب إسرائيل بين فترة وأخرى، ولا فتح ضعيفة في غزة، وهي التي حيدت غالبية عناصرها في الصراع مع حماس عندما اندفعت الأخيرة بثقلها لحسم معركة السيطرة على أجهزة الأمن . إعلام فصائلي مضلل ثالثا : يشير الأسلوب الذي تعامل به طرفا الأزمة إعلاميا إلى حقيقة باتت واضحة كضوء الشمس، وهي أن " الإعلام الحزبي الفلسطيني " الذي يشمل : فضائيات، وصحفًا، ومواقع إلكترونية عديدة ومتنوعة، ساهم في بث جرعات ضخمة من التوتر والاستعداء بين ثنايا العلاقات المتبادلة بين الحركتين، ومارس دورا سلبيا وخطيرا في تعميق حالة الانقسام، دون أي وازع وطني أو قيمي . وتنهض سيمفونيات " الردح المتبادل " بين فضائيتي " فلسطين " و " الأقصى " خلال الأيام الماضية كشاهد على أن مفردات اللغة الإعلامية الفصائلية ارتكست إلى درجة مخيفة، وأضحت مستودعا للأكاذيب، وأداة لبث الفتنة العمياء القائمة على التشويه والتشهير، بعيدا عن أي معيار مهني أو موضوعي أو وطني . خذ مثلا ما تسببت فيه فضائية " فلسطين " عندما لم تتورع عن بث أغنية " ثوار الفتح " على خلفية صور انفجارات غزة، وفي اليوم التالي مباشرة للجريمة ! حيث اعتبرت حماس ذلك دليلا على إقرار فتح بفعلتها، بل تحريضا علنيا على اقتراف المزيد رابعا : تكشف القراءة المتأنية لردود فعل طرفي الأزمة عن أن ثمة عصبية وتسرعًا شديدين يسيطران على سلوك قيادتي الفريقين والمتحدثين باسمها، ولعل ذلك مرده وجود شعور بانسداد الخيارات أو ضيقها، لدى النخب السياسية والقيادية من الطرفين . فمن ناحية حماس، جاءت التفجيرات في وقت كانت فيه الحركة تأمل في أن تؤدي التهدئة بعد شهر على دخولها حيز التنفيذ، إلى فتح معبر رفح كمقدم ربما إلى تفكيك الحصار، فإذا بالأمور تأخذ طابعا مغايرا، وهكذا يمكن القول إن غضب حركة حماس كان شاملا، ويشكل ردا على انسداد الخيارات، وليس فقط ردا على عمليات تفجيرية استهدفت تقويض الإنجاز الوحيد الذي تفاخر به حركة حماس، وهو استقرار الحالة الأمنية في القطاع . ومن ناحية السلطة وفتح، لم يكن الوضع أفضل كثيرا، فكلمة " تيار خياني " في فتح التي رددتها حماس، أفقدت الجميع في رام الله صوابهم، كونها جاءت في وقت دفعت إسرائيل فيه محمود عباس إلى الحائط، وجردته من أية أوراق كانت يمكن أن تشكل له رافعة في وجه خطاب حماس، الذي أخذ منحى آخر بعد اتفاق التهدئة في 19 يونيو الماضي بوساطة مصرية . وهكذا يمكن القول إن البعض في حركة فتح والسلطة انساق نحو سياسة الهجوم كأفضل سياسة للدفاع، ومن ثم خرجت مقولة : " إن ما حدث في غزة يأتي في إطار تصفية الحسابات داخل حماس، والصراع على النفوذ ". خامسا : يقود استمرار الوضع الراهن تدريجيا ولو بشكل نسبي إلى تآكل المصداقية لكلا الطرفين، ويهدد بتحويلهما من قيادات وطنية إلى قيادات فئوية، وبتحويل رجالاتهما من قادة إلى مجرد " حكام " لا يعرف أحد كم ستطول قدرة بعضهم على إدارة شئون الحياة اليومية في قطاع غزة المغلق والمحاصر بآلة الحرب الإسرائيلية، أو إلى متى سيستمر اعتراف تل أبيب وواشنطن ببعضهم الآخر حكاما للحكم الذاتي الذي أعيد احتلاله في أبريل 2002 في الضفة الغربية، الأمر الذي يهدد في التحليل الأخير بفراغ قيادي، نتيجة للطريق المسدود الذي وصل إليه الحوار بين الحركتين، إلى أن تأتي ساعة الذروة مع استحقاقات داخلية موجبة للتغيير، وعندها قد يكون للملايين من الفلسطينيين كلمة أخرى . سادسا : ما يجري اليوم بين فتح وحماس قد يفسح المجال لحراك فلسطيني بعيد عن التيارين المتصارعين؛ إذ تفيد أخبار الداخل الفلسطيني بأن المجتمع الفلسطيني يسير نحو تطرفين أنتجهما سوء سلوك الحركتين، وتحوله إلى ظاهرة مثيرة للقلق . ففي الضفة، بدت بوادر التذمر واضحة في اتساع دائرة البحث عن تيار ثالث، مع تطرف ليبرالي أدى إلى ظهور أحزاب وتيارات تجادل في الحرية والديمقراطية ومكافحة الفساد، تحت الاحتلال، الذي لا ينفك يرسل جنوده لتنفيذ عمليات اغتيال واعتقال على بعد أمتار قليلة من مقرات هذه الأحزاب . وفي غزة ثمة معلومات عن أن تنظيم القاعدة بدأ يجد تربة خصبة لتجنيد الأنصار، خاصة بعد قبول حركة حماس بالتهدئة دون أن تحقق أيا من شروطها الأساسية، مثل فتح معبر رفح، وربط التهدئة في قطاع غزة بالضفة الغربية . المحصلة إذن أن ثمة معضلات فلسطينية تختلف عن كل ما عرفه الفلسطينيون والعرب والعالم من قبل، يمكن أن تظهر في ظل استمرار الصراع الدامي بين فتح وحماس .