من أشهر المشكلات التي يقع فيها كثير من المسلمين: الخصام والهجر والتباغض والتناحر؛ وذلك على مستوى الأسر والعائلات والجيران وزملاء الدراسة والعمل؛ ذلك على الرغم من أنها من المحرمات؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وقد تنبأ رسول الله صلى الله عيه وسلم بحدوث ذلك؛ حيث كان يخشى من وقوعه في أمته؛ فعن عامر بن سعدٍ عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عيه وسلم أقبل ذات يومٍ من العالية، حتَّى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربَّه طويلاً، ثمَّ انصرف إلينا، فقال صلى الله عيه وسلم: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَة فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا». فالمشكلة إذن واقعة وليست محتملة، وهي أثقل في ميزان السيئات من سيئات أخرى كثيرة قد نهتم بالإقلاع عنها والاستغفار منها، ولكننا نقع في مشكلة الشقاق هذه دون أن نهتم؛ لذا فعلاج هذه المشكلة أثقل عند الله تعالى من أعمال نعدُّها من كبار الأعمال الصالحة؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟». قالوا: بلى. قال: «صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ». وليس معنى حتمية وقوع الشقاق أن من يقع فيه ليس عليه إثم، أو أن مَنْ يتسبَّب فيه معذور؛ أبدًا! فالله سبحانه وتعالى يحرم علينا إفساد ذات البين، وكما خلق الله الشيطان وأنظره إلى يوم القيامة {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}أي أن وجود الشيطان وغوايته وإفساده للناس أمر حتمي، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى لم يعذر مَنِ اتبع غواية الشيطان، ولم يلتزم بأوامر الله؛ بل أوعده الله بالنار {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} ومن هنا فليكن الهدف الثالث من أهداف أجمل رمضان أن نصلح ذات البين، وهذا الهدف ينقسم إلى جزأين: الأول: إصلاح ذات بينك مع من تخاصمهم. الثاني: إصلاح ذات بين المتخاصمين ممن تعرفهم، حتى لو لم تكن طرفًا في الموضوع.لا شك أن رمضان فرصة عظيمة لإصلاح ذات البين، خاصة إذا عرفت أن الذي وراء الفرقة هو الشيطان: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ»فالشيطان يُريد للإنسان الوحدة؛ حتى يسهل له التأثير عليه وأخذه إلى سبيل المعصية، وعلى مستوى الأسرة نجد أن أعظم الأعمال التي يفخر بها الشيطان هي التفريق بين الرجل وزوجته؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ؛ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا؛ فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ -قَالَ- فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ».فهكذا يجعل الشيطان نصب عينيه أن يفرق بين الرجل وامرأته، وأن يخرب البيوت العامرة، والحقيقة أن الشيطان ناجح في هذه المهمة أيما نجاح؛ فالإحصائيات تقول: إن مصر تسجِّل 155.3 ألف حالة طلاق سنويًّا؛ أي بمعدل مطلقة كل دقيقتين. ولا يقتصر الأمر على مصر فالنسب في العالم العربي عالية جدًّا؛ حيث وصلت نسب حالات الطلاق السنوية 21% من حالات الزواج؛ ففي الإمارات العربية مثلاً وصلت النسبة 46%، وفي قطر 38%، والكويت 35%.وما ذكرته من النسب إنما هي لحالات الطلاق الكامل، لكن لو تحدثنا عن نسب حدوث المشكلات لوجدنا أنها تكاد تعمُّ البيوت المسلمة، وتؤدِّي إلى عواقب أفدح كالهجر داخل البيوت وكثيرًا خارجها، والعنف في التعامل بين الزوجين.. إلى آخر المشكلات الضخمة التي يمكن توقعها، والتي تؤثر على الأولاد؛ فالشيطان في هذا الميدان ناجح بكل المقاييس، وهذا ما يفتح الباب لجهودك في الإصلاح؛ سواء داخل بيتك أو في بيوت الأقارب والأرحام والجيران والزملاء؛ وخاصة مع دخول رمضان حيث تُصَفَّد الشياطين، كما أن القلوب ترقُّ في هذه الأيام المباركة فتصبح الفرصة أكبر للنجاح في الإصلاح. إذن، راجع قائمة معارفك، وانظر لمن فسدت علاقتك بهم دون أن تنظر إلى المخطئ؛ فلا تتوقَّف عند كونهم أخطأوا في حقك؛ بل قل مثلما قال الرسول صلى الله عيه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يا رسول الله إنَّ لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» فأنت بإصلاحك ذات بينك وتجاوز الآخرين إنما تستجلب نصر الله تعالى لك، والعقاب على من أساء إليك؛ فعن النبي صلى الله عيه وسلم قال: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»فهذا الواصل هو الذي بلغ أعلى من درجة الصائم القائم المتصدق بنص حديث ذات البين، ولكن المؤمن لا يكتفي بأن يصل رحمه وأن يصلح ذات بينه، وإنما يزيد في عمله الصالح بأن يعمل على الإصلاح بين المتخاصمين المتقاطعين؛ فهذا من أفضل الأعمال، وقد قال الله تعالى في ذلك: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]؛ فكل الكلام خارج من الخيرية إلا هذه الأمور الثلاثة؛ فلا تحرم نفسك في هذا الشهر العظيم من أن تكون من المشاركين في هذا الخير. د. راغب السرجاني