يظل المرء محباً لما يألف.. وفي تقديري ان للالفة دورا مهما في مسألة الشأن الفكري.. ولها حضورها الطاغي في حال الابداع والتناول.. ولو اردنا ان نتأمل هذه المسألة بشيء من التفصيل لوجدنا ان الذين يكتبون على وجه الخصوص لهم طقوسهم ومناخاتهم وطرائقهم التي تتباين من شخص الى آخر.. فهناك من لديه القدرة على الكتابة وسط الضجيج وثمة من يكتب وهو في صالة الانتظار بالمطار كنوع من استثمار الوقت بشيء مفيد.. وهناك من لا يكتب وهو في خلوة ينفرد فيها بنفسه دون ان يشاركه احد الا الهواء !! وهناك من يكتب وهو على مكتبه داخل الصحيفة او المجلة، فيما تدور حوله حياة الجريدة بكل زخمها وحراكها.. وهناك من يكتب وهو بين الارض والسماء محلقاً في طائرة تقطع به المسافات.. وثمة من يكتب في المقهى اذا ما كان في ركن من اركانه وحيداً، فيجد طقساً حميمياً تتنازعه فيه ملكة الكتابة والتدفق. ومن جانب آخر فإن الكتابة نفسها تظل هي الاخرى وليداً شرعياً لقلم كاتبها، وجزء من روحه، وانفاسه، وشخصيته، وسلوكه، واتجاهاته، وثقافته في الغالب، ولذلك فان ثمة كتابات خفيفة ظريفة من نوع (خفيف الدم) ويقابلها اخرى معقدة وصعبة على الفهم، ويمكن ان نطلق عليها (ثقيلة دم). وثمة كتابات سطحية خاوية، ومجرد (رص كلمات) لا اكير ولا اقل على طريقة (سواء في بياض) او تعبئة فراغ، وثمة كتابات فكرية عميقة ورصينة وذات بعد ثقافي اصيل. وهناك تناولات حادة ومدببة تبعث على الاشمئزاز وتقود الى الاستفزاز وثمة لون آخر من التناول الذي يصطبغ بالسخرية او ما يعرف بالكتابات الساخرة. ولكل واحد من هذه الكتابات مدرستها واهلها، الذين برعوا فيها، وكسبوا جمهوراً واسعاً من القراء والحبين والمتلهفين لكتاباتهم، بينما غيرهم يظل دهراً يكتب دون ان يعيره احد اهتمامه!!