( اهداء الي روح زوجي – رحمه الله – ) وهي في المطبخ تعد له الطعام، غاصت في دوامة من الأفكار. لم تستطع تخيل نفسها أرملة المستقبل، ولا ابنيها يتيمين. فالطبيب قبل مغادرة المستشفى، ورغم ابدائها استعدادها التبرع بكليتها لزوجها،لم يكن كلامه مشجعا ولا مطمئنا. فقد اختلى بها بعيدا عن عيني زوجها، وسمعه، ليصارحها بأن العملية ميئوس منها تقريبا، فجسمه الضعيف،والذي انهكته سنوات المرض الطويلة،ومناعته التي تكاد تكون منعدمة، لا تسمح باجراء عملية دقيقة، ومعقدة في حجم زرع كلية جديدة للمرة الثانية . قطع أفكارها،وسرحانها رنين الهاتف. كان رقم نانا…حماتها. -يا إلهي،مالذي ساقوله لهذه المرأة الطيبة؟بماذا سأخبرها عن فلذة كبدها،وهي التي قد لا يحتمل قلبها الضعيف الأخبار السيئة. ابتلعت ريقها بصعوبة. تماسكت قليلا، ثم قربت الهاتف من أذنها. -ألوووو…أهلا نانا. أخبارك إيه؟ -الحمد لله بخير،وانتم أخباركم إيه ؟ ازي وليد؟ الطبيب قال إيه؟ طمنيني يابنتي هو ما بيردش على التليفون ليه؟ -الحمد لله.ما فيش حاجة. الطبيب طمنا. كان صوتها يرتعش. على الجانب الآخر تغلب إحساس الأم على المرأة، لتدرك أن محدثتها تخفي عليها شيئا. -مش مقتنعة بكلامك. صوتك بيقول غير كده. أرجوك ما تخبيش علي. -أنت عارفة الوضع يا نانا. الطبيب يحاول، وربنا يجيب اللي فيه الخير، أنا متأكدة أنه هيبقي كويس . -اللهم آمين. ما تنسوش تيجو تتغدو عندي بكرة. علشان نشوف هدير لما توصل بالسلامة، ولو ما قدرتوش،قوليلي نجي نزوركم أنا واخواته، مع ألف سلامة يا بنتي. -إن شاء الله يا نانا. وأنت بألف خير. وضعت الهاتف على الطاولة وهي تتمتم: بكرة…بكرة…ربنا يستر وتعدي الليلة على خير. كان الصمت ثقيلا، وكل شيء يبدو رتيبا. فجأة رن جرس الباب،فهرعت لتفتحه، وهي تتعثر في طريقها إليه. في داخلها،كانت تبحث عن أي إنسان تحادثه، لتقتل صمت الأموات الذي خيم على البيت. لم تنتظر أن يخطو خطوته الأولى داخل البيت، لترتمي في أحضانه، وهي تردد: -خالو…وحشني يا خالو. كنت فين يا خالو؟ طولت ليه وما جيتش؟ ضنها طويلا إلى صدره، ثم أمسكها من ذراعيها،وهو يرمقها بنظرة امتزج فيها الحنان بالاستغراب. -مالك حبيبتي؟ ما الذي حدث؟ أنا ليلة البارحة سهرت عندكم ككل ليلة! في الحقيقة هو يزورهم على الدوام.لم يكد يتخلف ليلة عن مؤانستهم والسهر عندهم.حتى صار ثابتا من ثوابت ليالي السمر الأسرية. -وليد يا خالو..وليد.الطبيب ما طمنيش.أنا خايفة عليه.بجد هذه المرة أنا مش متفائلة. أزاحها من أمامه برفق،ثم سار بخطى ثابتة،وسريعة نحو غرفة النوم. في طريق عودتها إلى المطبخ، أحست بدوخة خفيفة،قد تكون جراء الإعياء وقلة النوم،فاستلقت على أريكة في الصالون المفتوح. تناهت إلى سمعها همهمات، وكلمات،وأحيانا بعض الضحكات! بدأ الصوت يقترب،وعيناها شبه مغمضتين ،لتنتفض وهي تسمع خالها يقول: -أهو وليد يا ستي.لا بأس عليه. وسنسهر معا كالعادة. دخل يمشي متثاقلا رفقة خالها وهو يرتكز على عصاه، ليتهاوى جنبه على الأريكة. لم تستغرب الموقف،فهما رفيقان منذ سنوات طويلة، ولا تكاد تمر ليلة لا يجتمعان فيها حول طاولة الشاي،وهما يتجاذبان أطراف الحديث. كثيرا ما نشب بينهما خلاف حول مسألة سياسية، أو فقهية،أو اجتماعية، لكن لا أحد يمكنه الاستغناء عن الآخر. فإن حدث وتخلف خالها،سارع وليد إلى الاتصال به ليسأله عن حاله، ويدعوه إلى المجيء. -عنوان أغنية لأم كلثوم يتشكل من خمسة أحرف. سأل خالها وهو منهمك في حل الكلمات المتقاطعة، رفقة زوجها. رفعت رأسها لتتقاطع عيناها مع عيني وليد، قبل أن يجيب: -أنساك…!؟ عادت برأسها إلى الخلف وأغمظت عينيها وهي تشعر بوقع الدوخة يتزايد . ( كان لك معايا أجمل حكايه في العمر كله سنين بحالها ما فات جمالها على حب قبله . سنين ومرت زي الثواني في حبك انت وان كنت أقدر أحب تاني ، أحبك انت كل العواطف الحلوه بينا كانت معانا حتى في خصامنا وازاي تقول أنساك واتحول وانا حبي لك أكتر من الأول ) يتبع..