أوى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد صلاة العشاء الى مضجعه فقد كان يريد ان ينال قسطا من الراحة ليستعين به على العسّ في الليل، لكنّ النوم نَفَر عن عيني الخليفة بسبب ان مدينة الابلّة تعد من اهم المصادر التي تمد جيوش الفرس المنهزمة بالمال والرجال، فعزم على ان يرسل جيشا لفتح الابلة وقطع امداداتها عن الفرس لكنه اصطدم بقلة الرجال عنده، فعمد الى طريقته التي عرف بها وهي التعويض عن قلة الجند بقوة القائد.. فنثر كنانة رجاله بين يديه واخذ يختبر عيدانهم واحداً بعد آخر فما لبث أن هتف: وجدته نعم وجدته . ولمّا اصبح الصبح، قال : "دعوا لي عتبة بن غزوان ان عقد له الرايه على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ووعده بأن يمده تباعا بما يتوفر من الرجال.. مضي عتبة بن غزوان برجال ومعه زوجته وخمس نسوة اخريات من زوجات الجند واخواتهن ولم يكن معهم شيء يأكلونه، فلما اشتد عليهم الجوع قال عتبة لنفر منهم لتمسوا لنا شيئا نأكله .. كانت الأبلة التي اتجه اليها عتبة بجيشه الصغير مدينة حصينة قائمة على شاطئ دجلة، وكان الفرس قد اتخذوها مخازن لأسلحتهم وجعلوا من ابراج حصونها مراصد لمراقبة اعدائهم .. لكنّ ذلك لم يمنع عتبة من غزوها على الرغم من قلة رجاله وضآلة سلاحه ولم يكن عنده من السلاح غير السيوف والرماح. فقال الجيش اذا نحن اقتربنا من المدينة فأثرن التراب وراءنا حتى تملأن به الجو .. فما دنوا من الابُلّة خرج اليهم جند الفرس فرأوا اقدامهم عليهم ونظروا الى الرايات التي تخفق وراءهم ووجدوا الغبار يملأ الجو خلفهم فقال بعضهم لبعض : فهم طليعة العسكر وان وراءهم جيشا جرار يثير الغبار ونحن قلة ثم دبّ الذعر في قلوبهم وسيطر عليهم الجزع فطفقوا يحملون ما خفّ وزنه وغلا ثمنه ويتسابقون الى ركوب السفن ويولون الادبار .. فدخل عتبة الاُبلّة دون أن يفقد احداً من رجاله ثم فتح ما حولها من المدن والقرى وغنم من ذلك غنائم عزّت على الحصر وفاقت كل تقدير حتى ان احد رجاله عاد الى المدينة فسأله الناس : كيف المسلمون في الابلة؟ فقال عم تتساءلون؟! والله قد تركتهم وهم يكتلون الذهب والفضة اكتيالاً فأخذ الناس يشدون الى الأبلة الرّحال .. رأى عتبة ان الدنيا اقبلت على المسلمين اقبالا يذهل المرء عن نفسه ويخشى على دينه من دنياه واشفق على الآجلة من العاجلة .. فجمع الناس في المسجد وخطبهم فقال: ايها الناس ان الدنيا قد آذنت بالانقضاء وانتم منتقلون منها الى دار لا زوال فيها فانتقلوا اليها بخير اعمالكم ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام غير ورق الشجر حتى قرحت منه اشداقنا، ولقد التقطت النصف الآخر .. فاذا نحن اليوم لم يبق منا واحد الا وهو امير على مصر من الامصار اني اعوذ بالله ان اكون عظيما عند نفسي صغيرا عند الله .. ثم استخلف عليهم رجلا منهم وودعهم ومضى الى المدينة .. فلما قدم على الفاروق استعفاه من الولاية فلم يعفه فألحّ عليه فأصرّ عليه الخليفة وامره بالعودة فأذعن لأمر عمر كارها وركب ناقته وهو يقول: اللهم لا تردني اليها.. اللهم لا تردني اليها، فاستجاب الله دعاءه اذ لم يبعد عن المدينة كثيرا حتى عثرت ناقته فخرّ عنها صريعاً وفارق الحياة. أخي القارئ لن اعقب كثيراً على قصة هذا البطل المغوار فحسبه انه كان مجاهداً في سبيل الله وزاهدا فرضي الله عنه وارضاه..