استغرق الهمس وقتاً في التنبًّؤ بنتيجة انتخابات عمادة كليَّة الهندسة بجامعة الرياض قبل زمن طويل. كان العميد الذي تم انتخابه مفاجأةً ربَّما لأنَّه لم يكن من ضمن الأسماء ذات الصوت العالي. وتسلَّم مكتبه الذي كان في قسم العمارة بالكليَّة، ذلك القسم الذي كانت التخصصات الأخرى وخاصة المدنية تجد فيه عبئاُ على الكليَّة في مفارقةٍ غريبة. فأولئك نفسهم هم من كانوا يرفضون أن يُمنح القسم الاستقلاليَّة ليصبح كليَّةً وهو ما تحقَّق بعد سنوات. لم يكن العميد الجديد استثناءً في تلك الرؤية إلا أنه كان أكثر حياديَّة من غيره. وكان يدور بين الطلاب ما يتهامس به بعض أعضاء هيئة التدريس من مبالغة ذلك العميد في الدِّقة حدَّ ما عدُّوه تسلُّطاً، فيما الواقع أنه كان نظاميَّاً بشكل كبير، لا يجامل في العمل خاصةً إذا مُسَّت أكاديمية المؤسَّسة التي ينتمي إليها. وظلَّت قصته مع ذلك الطالب الذي كان على وشك التخرج إلا أنه كان سيء الحظ فقد جاء العميد ليلاً في زيارة مفاجئة حيث كان طلاب قسم العمارة ينهون مشاريعهم ليكتشف أنَّ أحدهم قد تسلَّل إلى مكتب العميد مستخدماً هاتفه في مكالماتٍ خاصَّة! وقامت الدنيا ولم تقعد.. وأصرَّ العميد على فصل الطالب إذ لا مبرِّر لأية شفاعة أمام كِبر الذَّنب. ومع تكاثر الرجاء والإقناع تحوَّل القرار بعد لأي إلى حرمان الطالب من الدراسة ذلك الفصل. كانت التقليديَّة الأكاديمية سائدةً في ذلك الزمن. وكان الحاجز بين الأستاذ وطلاَّبه محفوفاً بقواعد قاسية أحيانا. وكانت للعميد مكانةٌ خاصة ربَّما نبعت من كونه اختياراً للأكفأ. واتَّسم العميد بهدوءٍ مفْرِط وأناقةٍ حجازيَّةٍ خاصة. وكان إحساسه الإنساني يتسلَّل رغماً عنه ليرسم ابتسامةً أو يُعلِّق على ما كان يعانيه من بعض الطلاب. في حفلٍ ختامي للكليَّة، ارتجل كلمةً لطيفةً ذكر فيها استنتاجاً له بأنَّه وجد تناسباً طرديَّا بين الطالب المتميِّز والمشاركة في الأنشطة اللاصفيَّة. إلاَّ أنه استطرد وهو يرسم ابتسامةً ساخرةً بأنه يرجو ألا يفهم الطالب غير المجد ذلك الاستنتاج بأنه دعوة للأنشطة أوَّلاً! تغير العميد بعد استكمال دورةٍ واحدة. وتخرَّجنا لندور في دوامة الحياة زمناً طويلاً. وذات يومٍ وفي حفلٍ لخريجي جامعة ال MIT التي أسَّسها ورأسها لسنوات أخوه الأصغر المهندس محمد. رحَّب بي بمشاعر لم أتوقعها، والتفت إلى أخيه قائلاً: هذا تلميذي. أعجبتني المبادرة وشدِّني فخره واستوقفتني الكلمة التي لم أسمعها منذ زمن. ابتدأَتْ علاقةٌ جميلةٌ مع العميد. وفي داخلي كنت سعيداً أن ذلك المقام قد تغيَّر إلى البسط، وأصبحنا كما عدَّني وعددته أصدقاء نسعد باللقاء كل حين. الذي لم يتغيَّر أنه في كلِّ مرةٍ يقدمني إلى أحد يبادر ب هذا تلميذي! اتضح أن لدى العميد اهتماماً خاصاً بتاريخ جدة عروس البحر وعروسه. وكوَّن مع الزمن خبرة متميِّزةً بالصور التاريخية لها. ولعلَّ مجموعته الخاصة من الصور التاريخية وتلك التي التقطها بنفسه من أنفس المجموعات المصوَّرة عن جدة. وفي حسابه في تويتر قليل لكنَّه كثير من صور جدة وتفاعله الموضِّح والذي كان جهيزة كل اختلاف. سألتُه عن متى سيصبح هذا الجميل الذي لديه في كتاب فأجاب بأنَّ ذلك أَوْلى اهتماماته. وقبل أقلَّ من شهر علمت عن أن مجموعة رائعة من الصور التاريخيَّة للمملكة قد تمَّ الحصول عليها، وتتضمن صوراً بديعة لجدة. واحتفظت بالأمر حتى تصل المجموعة لأفاجئ العميد العاشق بمزيدٍ يسرُّه عمن أحب، ولأطمع في أن يعرِّف ما في تلك الصور من معالم وما وراءها من تاريخ. في لحظةٍ قاسيةٍ فُجِعتُ بالخبر دون أن أفزع بآمالي إلى الكذب، إذ لم يكن إلى ذلك مجال مع تكرُّر التأكيد. اختطف الموت الدكتور طلال بن عبد الكريم بكر، رحمه الله رحمة واسعة، لتفقد جدة أحد أحبِّ أبنائها وأكثرهم دفاعاً عن تاريخها، ولتتيتَّم الكثير من الصور التي لم يعرف ملامحها وقدرها إلاَّ هو.. كما ستتيتَّم تلك العِبارة الآسرة التي لم أسمعها إلا منه: هذا تلميذيَ.