كان صوتها حزيناً، مثل صوت ناي في بستان مهجور، وبداخلها حسرة مكتومة، تطير بجناحين من ألم، وكان فؤادها الصغير يدق كطبول إفريقية مجنونة، حتى أصبح فؤادها هواء، وكانت عيونها متجمدة كعيون الموتى، لا تتغير، من هول القصف المتواصل، وفي تلك اللحظة الفاصلة، اشتد دوي القصف بالقرب من منزلها البسيط، حتى رأت دخانه يلوح في الأفق، فشعرت بدنو أجلها، وبأن الزمن يذوب، والمكان يتلاشى من حولها، فبدأت تستعرض شريط الذكريات في مخيلتها، دون أن تستطيع إيقافه!… وسبح عقلها في رحاب الماضي الجميل الذي لم يترك لها إلا الحنين إليه، عندما كانت تداعب بأناملها الصغيرة طائرتها الورقية زاهية الألوان، التي تمزقت تحت ركام المنازل المنكوبة، وصارت نسياً منسياً، وعروستها التي كانت تُمشطها وتُزينها كل يوم. وتذكرت لما كانت تنثُر حبات القمح على سطح منزلها كي تأكل الطيور، وتشدو بتغريداتها أعذب وأرق الألحان، وتذكرت سقايتها لزهور ساحرة، ناضرة، مختلف ألوانها، غابت عنها نسائم الربيع الندية، وتركتها جدائل الشمس الذهبية الدافئة وحيدة، لتُذبلها ويلات الحرب، وتدهسها أقدام المحتل الغاشم، وتذكرت لحظات المرح مع صبايا الجيران، الذين ارتقت أرواحهم لقاضي السماء، من جراء مطرقة القصف التي لا ترحم… كل هذه الذكريات البريئة مرت عليها في لمح البصر، وظلت شاخصة في وجدانها الطفل، إلى أن سقطت قذيفة طائشة على سطح منزلهم البسيط، فقطعت عليها حبل ذكريات الطفولة البريئة في أيام الصبى الجميل، وحرمتها من لحظة ذكريات عابرة… تباً للحرب، وهنا، شعرت بدبيب الموت، يسترق الخُطى، وأنها ستخسر المعركة دون أن ترفع سيفاً، وأنه إذا دخل عليها، طارت الحياة من النوافذ، وأدركت أن العبث معه لن يُجدي نفعاً، وأنه لا طائل من وراء الهروب من المقادير المكتوبات، وبدأت التساؤلات تغزو خاطرها البرئ… هل سأموت الآن؟ هل حان الوقت لاغتيال براءتي؟ هل سأعانق السماء الآن؟ هل حان دوري كي أودع طائرتي الورقية وعروستي؟ هل يمكن أن أعيش حتى انبلاج الفجر، أم أنهم سيحرقون غصون الزيتون؟ وهل من الممكن أن ترق قلوبهم، الأشد قسوة من الحجر، وتلين عندما يرونني طفلة صغيرة، لا حول لها ولا قوة؟… وهل وهل وهل… تساؤلات غريبة ومريبة، تفرض نفسها على طفلة في عمر الزهور!! اللعنة على الحرب، وآه من مرارة الحرب، التي تحصد أرواحاً بريئة… وفجأة، ودون سابق إنذار، جاءها الجواب القاطع من حيث لا تدري على كل هذه التساؤلات المحيرة. إنه الجواب الذي أوقف فؤادها الصغير عن الخفق، وعقلها عن استرجاع ذكريات الماضي الجميل، لتلامس روحها السماء، سابحة في ملكوت الشهداء، ولتعرج إلى بارئها، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لتلحق بركب الأطفال الذين سبقوها لجنان الخلد، وبقوافل الشهداء التي قصدت الفردوس الأعلى، تاركة جسدها الطاهر الصغير، المغطى بفستان أبيض وردي، مخضلاً في دمائه الذكية، التي ستُروى بها أرض العزة والكرامة والشرف، تلك الأرض التي يعيش أطفالها بين مطرقة العدوان الذي لا يرحم، وسندان الحصار الذي لا يتوقف، فهل سيستيقظ ضمير العالم في يوم ما من غفلته التي طالت ومن سباته العميق، أم أنه مات ولا أمل في إحيائه من جديد؟! بقلم/ أسامة بن محمد أبو هاشم.