لقد حاولت أن أتقصى جذور هذه الظاهرة في عدد من المقالات، لأنها في نظري تمثل واحدة من أسوأ العادات والتقاليد التي تلقي بظلالها السلبية الكثيفة في حركتنا النهضوية دولة ومجتمعا، فوجدت أن جذورها تضرب عميقا في تراثنا العرفي وفي تقاليدنا الاجتماعية.كان يلجأ إلى الواسطة صاحب الحاجة الغريب عن المجموعة خاصة لقضاء حاجته عند كبير القوم، فهو مجتمع يقوم على التلاحم العضوي بين أفراده. إلا أن الحاجة إلى الواسطة انتفت، أو ينبغي أن تكون قد انتفت بقيام الدولة السعودية الحديثة التي أرسى المؤسس الملك عبد العزيز (رحمه الله) أسس نظمها على الشرع الحنيف، ليكمل بعده أبناؤه مؤسسات الدولة على النمط الحديث الذي يضمن قضاء حوائج الناس، عبر قنوات مؤسسية نظامية، لا ترتبط بشخص المسؤول في الموقع المعين، وتكون بذلك صمام أمان في وجه المحسوبيات والواسطات والمزاجيات والأهواء الخاصة بالمسؤول، وتضمن العدل والمساواة بين كل الناس في الدولة، مواطنين وزوارا ومقيمين عاملين. وعلى ذلك يمكننا أن نقول (إن الواسطة أساسا كانت ثمرة عرف اجتماعي، إلا أنها وفي ظل دولة حديثة تصبح في واقع الأمر معوقا أمام تحقيق العدل بين أفراد المجتمع)، وهنا مربط الفرس، لأن الدولة تأسست على هذا المبدأ الشرعي، فهو أساس الشرعية في الدولة الإسلامية. إن شيوع مثل هذه الظاهرة إنما يدل دلالة واضحة على انعدام الثقافة المؤسسية، وتدل على (شكلية) النظم التي نتقن وضعها، إلى أننا نتجاهلها تماما، بل ونلغيها في ممارساتنا العملية اليومية ونتجاوزها لننجز معاملاتنا عن طريق الاتصال الشخصي وتوظيف الواسطة لإنجازها. كما أنها في هذا المستوى تؤدي إلى إفساد التقاليد العملية، حيث تصبح الواسطة هي القاعدة والأساس الذي يسير عليه نظام العمل في مرافقنا ومؤسساتنا العامة والخاصة. إذا ليس الهدر الاقتصادي وحده هو المشكلة وليس إهدار الزمن والجهد اللذين تم استثمارهما في اتجاه آخر فيما لو سارت العمليات الإدارية حسب النظم وحدها هي المشكلة. بل إن المسألة تتعدى كل ذلك لتضربنا في صميم تربيتنا الوطنية، وذلك بتكريس الواسطة بخرق النظم كمنهج ثابت الأمر الذي يؤخر ويعطل تطوير قدراتنا التنظيمية الذي يؤدي في محصلته النهائية إلى إضعاف بنية مؤسسات الدولة وتخلفها. كما أن هذا النهج فيما ألمحنا لا يساعد على إشاعة العدل والمساواة في الفرص التي يتحراه ولاة الأمر، باعتباره من أعظم القيم الإسلامية التي يقوم على أساسها بنيان هذه الدولة من حيث مساواة المواطنين بعضهم ببعض. والعمل وفق النظم التي وضعتها الدولة التي تحقق هذه المساواة، وتحقق العدل بين الناس في الفرص لنيل الحقوق والاستحقاقات وإنجاز المعاملات على عكس نهج الواسطة الذي يكرس الأنانية وحب الذات.