ثمة ظاهرة غريبة تستحق التوقف عندها وأحب أن أنوه إلى أننا لا ننفرد بها دون العالمين فهي ملازمة للمجتمعات والدول المتخلفة وشائعة فيها، وهي تقل كلما تطورت المجتمعات والدول، وترقت واستقرت وترسخت نظمها، وتمأسست قيمها. ألا وهي اللجوء إلى الواسطة أو تجاوز النظم أو القفز على المراحل الإجرائية في إنجاز المعاملات. إذ لا تكاد مسألة تعثر معاملة مراجع ما في إحدى الدوائر تلفت نظرنا أو تستوقفنا فيتجاوز الموظف المسؤول ليتجه إلى المدير أو رئيس المرفق لإنجاز إجراءات المعاملة الذي بدوره يوجه مرؤوسيه بإجراء اللازم فتحل مشكلة المواطن. ويتجه صاحب المعاملة إلى من هو أرفع مقاما من المدير فيلجأ إلى الوزير المختص رافعا مشكلته ويلجأ إلى من هو أرفع مقاما من الوزير من ولاة الأمر، بل ربما يصل سعيه حتى إلى ولي العهد من أجل استحقاقات يمكن أن تحسم عن طريق النظم والقواعد واللوائح الموضوعة. إذا ما حاولنا بصورة عاجلة أن نستقرئ دلالات هذه الظاهرة ونرصد سلبياتها وتداعياتها على نظم العمل والمؤسسات وانعكاساتها السلبية على قيم العمل فإننا سنجد أن المسألة هي في الواقع أخطر من أن نقابلها بكل هذا التجاهل واللامبالاة. إن النظم والقواعد إنما أوجدت لتنظيم العمليات وفق تسلسل إجرائي يؤدي في النهاية إلى هدف محدد، ومن ثم فإن كل موظف إنما عين في الموقع الوظيفي الذي هو فيه ليؤدي دورا محددا في سلسلة هذه الإجراءات فإذا ما احتاج المراجع إلى تجاوز كل هذه المحطات الإدارية ليقفز إلى مدير المرفق والمؤسسة فإن هذا يعني مباشرة أن في النظام الموضوع خللا ما يعطله أو وهذا هو السبب الحقيقي أن موظفا ما محددا في هذا السلك الإداري عطل وظيفته عن أداء دورها فانقطعت من ثم السلسلة الإجرائية، وهو ما أدى إلى تعطيل النظام كله ليقوم المدير بعمل كل محطات السلسلة الإدارية التي أنيطت بموظفين أقل درجة. هل تعرف ما الذي سيحدث حينئذ؟ إن هذا الوضع سيعطل « وظيفة» المدير سواء في التخطيط أو في الإشراف على التنفيذ في المرفق أو المؤسسة. إذ طالما سيقوم هو بعمل الموظفين فإن هذا لا يمكن أن يتم إلا بتعطيل وظيفته هو. وهو ما يجعل السؤال يطرح نفسه: إذن ما جدوى وضع النظم؟ وما جدوى تعيين هذا الجيش من الموظفين إذا كان المدير أو الوزير هو الذي يؤدي متطلباتهم الوظيفية؟. أغرب ما في المسألة هو أن المدير المعني لا يستوقفه هذا الأمر كثيرا، فبمجرد أن يطلب مقابلته صاحب معاملة فشل في إنجازها حسب النظم الموضوعة، تجده يقرأ أوراق المعاملة مهدرا وقته وطاقته في ذلك ثم يوجه بإنجازها. في حين كان يفترض ألا ينجز هذا العمل بل يتجه تركيزه مباشرة إلى جهازه الإداري ليصلح الخلل الذي عطله أو يحاسب الموظف الذي عطل وظيفته مسببا ربكة في الجهاز الإداري للمرفق أو المؤسسة بكاملها، حتى ولو أدى ذلك إلى فصله وتعيين من هو أكفأ منه وأحرص على سير العمل. ولا نعني بحديثنا هذا بالطبع الإجراءات أو المعاملات الخاصة والاستثنائية التي تحتاج إلى تدخل خاص من ولاة الأمر أو الوزير حسب السلطات المخولة له ولكننا نعني تلك المعاملات والحاجات العامة التي يمكن أن تنجز حسب النظم الموضوعة. إن شيوع مثل هذه الظاهرة إنما يدل دلالة واضحة على انعدام الثقافة المؤسسية، وتدل على «شكلية» النظم التي نتقن وضعها لكننا نتجاهلها تماما بل ونلغيها في ممارساتنا العملية اليومية، ونتجاوزها لننجز معاملاتنا عن طريق الاتصال الشخصي. كما أنها في هذا المستوى، تؤدي إلى إفساد التقاليد العملية، حيث تصبح الواسطة والمحسوبية هي القاعدة والأساس الذي يسير عليه نظام العمل في مرافقنا ومؤسساتنا العامة والخاصة. إذن ليس الهدر الاقتصادي وحده هو المشكلة، وليس إهدار الزمن والطاقة اللذين يمكن استثمارهما في اتجاه آخر فيما لو سارت العمليات الإدارية حسب النظم وحدها هي المشكلة، بل إن المسألة تتعدى كل ذلك لتضربنا في صميم تربيتنا الوطنية وذلك بتكريسها لخرق النظم كمنهج ثابت، الأمر الذي يؤجل تطوير قدراتنا التنظيمية، والذي يؤدي في المحصلة النهائية إلى إضعاف بنية مؤسسات الدولة وتخلفها. * أكاديمي وكاتب سعودي. www.binsabaan.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 215 مسافة ثم الرسالة