آمن أبو الدرداء منذ اللحظة الأولى بالله ورسوله ايماناً خالط كل ذرة في كيانه ولقد ندم ندماً كبيراً على ما فاته من خير وادرك ادراكاً عميقاً ما سبقه اليه اصاحبه من فقه لدين الله وحفظ لكتاب الله وعبادة وتقوى. فانصرف الى العبادة انصراف متبتل واقبل على العلم اقبال ظمآن واكبّ على كتاب الله يحفظ كلماته ويتعمق فهم آياته، وحينما رأى البيع والتجارة تنغص عليه لذة العبادة وتفوّت عليه مجالس العلم تركها غير متردد. ولقد قال : كنت تاجراً قبل عهدي برسول الله فلما اسلمت اردت ان اجمع بين التجارة والعبادة فلم يستقم لي ما اردت فتركت التجارة واقبلت على العبادة، فلم يترك ابو الدرداء التجارة فحسب وانما ترك الدنيا واعرض عن زينتها وزخرفها واكتفى منها بلقمة خشنة تقيم صلبه وثوب صفيق يستر جسده، وهذا شاب يقبل على ابي الدرداء ويقول اوصني يا صاحب رسول الله فيقول له: يابني اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء، يا بني كن عالما او متعلماً او مستمعاً ولا تكن الرابع فتهلك. في خلال وجود ابي الدرداء في بلاد الشام قدم عليهم امير المؤمنين عمر بن الخطاب متفقدا احوالها فزار صاحبه ابا الدرداء في منزله ليلاً فدفع الباب فاذا هو بغير غلق فدخل في بيت مظلم لا ضوء فيه فلما سمع أبو الدرداء حسه قام اليه ورحب به واجلسه، واخذ الرجلان يتفاوضان في الاحاديث والظلام يحجب كلا منهما عن عيني صاحبه، ثم جس عمر وساد ابي الدرداء فاذا هو برْدَعَة وجسّ فراشه فاذا هو حصى وجسّ آثاره فاذا هو كساء رقيق لا يفعل شيئا في برد دمشق. فقال له: رحمك الله، ألم اوسع عليك؟! ألم ابعث إليك؟! فقال له ابو الدرداء: أتذكر يا عمر حديثا حدثناه رسول الله؟ قال: وما هو؟ قال: ألم يقل "ليكن بلاغ احدكم من الدنيا كزاد راكب"؟ قال: بلى. قال : فماذا فعلنا بعده يا عمر؟! فبكى عمر وبكى ابو الدرداء.. ظل ابو الدرداء في دمشق يعظ اهلها ويذكرهم ويعلمهم الكتاب والحكمة حتى اتاه اليقين، فلما مرض مرض الموت دخل عليه اصحابه فقالوا: ما تشتكي؟ قال:ذنوبي. قالوا: وما تشتهي؟ قال: عفو ربي. ثم قال لمن حوله: لقنوني لا اله الا الله محمد رسول الله، فمازال يرددها حتى فارق الحياة. هذا ايها السادة الكرام هو عويمر بن مالك الخزرجي المكنى بأبي الدرداء أرأيتم كيف كان زاهداً في الدنيا ورعاً لا ينظر الى متاعها وزخرفها الزائل والى حطامها الفاني ويكتفي بالقليل القليل جدا وهو يعلم تمام العلم انه يوما ما سيغادرها ولم تغره فتنها البراقة واقبل الى ربه يرجو رحمته ويخشى عقابه، فيا ليتنا نكون كما كان هذا الصحابي الجليل فرضي الله عنه وارضاه.