معتز سلامة تحتل روسيا أهمية خاصة، ليس فقط لأنها لا تزال قوة عالمية عظمي بالمعيار العسكري، وبمعيار المساحة، والموارد الاقتصادية، والقدرات الكامنة العلمية والتكنولوجية، ولكن نظرا لما شهدته، خلال السنوات الماضية، منذ تولي فلاديمير بوتين رئاستها عام 2000، من خطوات جادة للعودة إلى مسرح السياسة العالمية، بعد سنوات من تفكك الامبراطورية، وبروز بوادر خطر من احتمال التجزئة، وانفصال جمهوريات ومناطق عن جسد الدولة الروسية نفسها. ولم يكن اختيار مجلة "تايمز" البريطانية للرئيس بوتين كرجل العام في آخر 2013، وقبلها مجلة "فوربس" في أكتوبر من العام نفسه، وقبلهما مجلة "تايم" في 2007، إلا اعترافا بدور القيادة الروسية في استعادة المكانة العالمية لروسيا، بعد أن أوشكت على الانهيار. ويأتي إعداد هذا الملف بشكل أساسي للاقتراب أكثر من حقيقة وخلفيات الصعود الروسي، وبهدف التعرف على نموذج القيادة الروسية، وهو نموذج قد تحتاج دول الثورات العربية إلى الاستفادة ببعض جوانبه. ولروسيا أهمية مضاعفة، بالنظر إلى ما تمثله من ميراث الامبراطورية السوفيتية التي ظلت تحتل مكانة القطب العالمي، في ظل عالم ثنائي القطبية لأكثر من نصف قرن. وعلى الرغم من حقيقة انتهاء صراع القطبية، وظهور عالم تعاوني جديد مختلف ومغاير، لا تزال المواقف الروسية في مجلس الأمن تغازل البعض. وفي السنوات الأخيرة، تبنت روسيا مواقف في سياستها الخارجية أحيت التطلعات بعودة التوازن إلى قمة العالم. وكانت خطوات ومواقف السياسة الروسية في منطقة الشرق الأوسط تحديدا لافتة، مع استمرار دعمها للنظام السوري على مدي ثلاث سنوات، وأخيرا دعمها للتغيرات الأخيرة في مصر بعد 30 يونيو، و3 يوليو. ويأتي إعداد هذا الملف أيضا -من هذه الناحية- لمعرفة أبعاد وحدود الدور الروسي في المنطقة والمصالح المشتركة الجديدة. لقد ذهبت أنماط التفكير بخصوص التحركات الجديدة لروسيا في الشرق الأوسط في اتجاهات متعددة: الأول: أشار إلى العنوان العريض، وهو "عودة روسيا"، في مشابهة بين الدور السوفيتي السابق - في الخمسينيات والستينيات - وما يتوقع من العودة الثانية لروسيا من تحالفات عسكرية، ومحاور مناهضة للسياسات الأمريكية. ويحمل هذا الاتجاه في طياته رؤية تري أن روسيا تستغل التوتر والاضطراب في علاقات دول المنطقة مع الولاياتالمتحدة في تسجيل نقاط قوة جديدة، واستعادة مواطئ قدم في دول لا تزال في الخندق الأمريكي. والثاني: انطلق من نظرية ملء الفراغ، حيث أكد العديد من التحليلات أن الولاياتالمتحدة قررت نقل وتوجيه اهتمامها، وتكثيف علاقاتها في العقود المقبلة مع آسيا (نحو الصين والهند..)، وذلك في أكبر عملية تحول استراتيجي مخططة ومدروسة للسياسة الخارجية لقوة عظمي في التاريخ. وبمقتضي هذا المذهب، فإن روسيا لم تأت إلى الشرق الأوسط على غير إرادة الولاياتالمتحدة، وإنما بتنسيق معها لملء الفراغ المتوقع في المنطقة، على أثر الرحيل الأمريكي. أما المذهب الثالث، فقد أشار إلى ملامح ترتيب إقليمي، تقوده المملكة العربية السعودية، التي لديها اهتمام خاص بملف سوريا، وتريد أن تنهيه، حتي لا يتسبب في انعكاسات استراتيجية كبري على المنطقة، وأنها في سبيل ذلك مستعدة لتعويض روسيا عن خسارتها في سوريا بمساعدتها على استعادة الوجود والنفوذ في دول بالمنطقة. وضمن هذا السياق، راجت الأحاديث عن استعداد السعودية لتمويل صفقات سلاح روسية كبري، بهدف استمالة الروس نحو تغيير النظام السوري، ولكسر الدائرة، وتذليل كل العقبات للإطاحة بنظام بشار.وليس هنا مجال لتحليل جوانب قوة أو ضعف أي من المذاهب الثلاثة، والعلاقات الدولية تتضمن أبعادا مختلفة للظاهرة الواحدة، قد تجمع كل ذلك. لكن هذه المذاهب في قراءة الإطلالة الروسية الجديدة على الشرق الأوسط تتسم بالذاتية، وتربط التوجهات العالمية للسياسة الروسية باحتياجات وأوضاع منطقة الشرق الأوسط، وكأن القوي العظمي تضبط بوصلة سياساتها، وفق مقاسات هذه المنطقة فقط. وهذا المذهب ليس بعيدا فحسب من الناحية العلمية والواقعية، ولكنه أيضا بعيد عن فكر القيادات على الجانب الروسي، أو على جانب دول المنطقة، الذين حرصوا على تأكيد أن تطوير العلاقة البينية لن يكون على حساب العلاقة مع الولاياتالمتحدة التي لا يمكن الاستغناء عنها. ويوحي المذهب الأول وكأن روسيا عادت إلى العالم، حين قررت العودة إلى الشرق الأوسط، ولا يأخذ في الحسبان التراكم الكبير الذي حققته الدولة الروسية في علاقاتها بمختلف المناطق الاستراتيجية على مدي السنوات العشر الماضية (سواء منطقة آسيا الوسطي، أو شرق آسيا، أو في سياق مجموعة البريكس)، وهو ما يؤكد أن تحولات السياسة الروسية تدور وفق مصالح اقتصادية عالمية كبري، وليست منطلقة من ترتيبات استراتيجية شرق أوسطية فقط. وعلى الرغم من أن للمذهب الثاني بعض الوجاهة التي يعززها ما تأكد من توجهات السياسة الأمريكية الرسمية نفسها التي تتجه إلى الانعطاف تجاه آسيا الهادي، بدلا من منطقة الأطلسي، فإنه لا يأخذ في الحسبان احتياج هذه النقلة أو التحول الاستراتيجي إلى وقت أطول، وأنه لا يمكن إجراؤه بين يوم وليلة، كما أنه لا يأخذ في الحسبان استمرار قيمة الشرق الأوسط كمحطة انتقال وعبور استراتيجية دولية مهمة، ويغفل قيمة السيطرة الأمريكية على نفط الخليج في التأثير في سياسات القوي الآسيوية الصاعدة التي هي في أمس الحاجة إليه (الصين، واليابان، والهند.. وغيرها). كما أنه لا يأخذ في الحسبان احتمالات التحول في السياسة الأمريكية على أثر الرؤي الاستراتيجية الجديدة، إذا قدمت إدارة جمهورية إلى البيت الأبيض.