لابد وأن أعترف بداية.. بأن هذه هي المرة الأولى التي تتفاعل فيها (الهيئة العامة للسياحة والآثار).. مع ما يُكتب عن (جدة التاريخية) – خصوصاً – وحالها وما آلت إليه، فقد كتبت وكتب غيري.. مرات ومرات قبل قيام الهيئة العامة للسياحة والآثار.. وبعد قيامها، إلا أن معظم ذلك الذي كُتب.. كان يذهب أدراج الرياح.. مع وكالة الوزارة لشؤون الآثار التابعة لوزارة المعارف آنذاك، والتي كانت تتولى شؤون الآثار – غير المعترف بها.. ضمناً – والتي لم تسفر جهودها في (جدة التاريخية) إلا عن تملك "بيت نصيف" لصالح (الوكالة).. ليكون متحفاً ل(مقتنيات) الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه -.. وهو البيت الذي كان يسكنه عندما يأتي إلى جدة طوال السنوات الأولى من حكمه.. وإلى أن تم بناء (القصر الأخضر) لسكناه في (العمارية).. ف(قصر حزام) الفاره والجميل في النزلة اليمانية، والذي سكنه الملك عبدالعزيز.. قرابة عشرين عاماً أو أكثر.. إلى أن لحق بالرفيق الأعلى عام 1953م، إلى أن قامت (الهيئة العامة للسياحة والآثار) فيما بعد.. فكان قيامها وإن جاء متأخراً بعد زوال نصف آثار الوطن.. إلا أنه كان يمثل اعترافاً ضمنياً ب(شرعية) الآثار ووجوب الحفاظ عليها خدمة لتاريخ الأمة وثقافتها، وهو ما كان موضع ترحيب الجميع وحفاوتهم واستبشارهم بقيام (هيئة) منفصلة لها بنيتها الإدارية وميزانيتها المستقلة وبرامجها في الحفاظ على البقية الباقية من آثار الوطن ومقتنياته التاريخية التي نجت من يد الإزالة أو التخريب، إلا أن (الهيئة) انشغلت طوال عدد غير قليل من سنواتها الأولى.. في بناء هيكلها التنظيمي وتقسيماته الإدارية ليشمل الوطن كله مع زيارات كان لابد من القيام بها لرئيس (الهيئة) ومساعديه للتعرف على الآثار والمواقع التاريخية الناجية.. للحفاظ عليها وتنميتها سياحياً، إلا أن ذلك.. لم يمنع الأمير فيصل بن عبدالله ب(ثقافته) وبعده الحضاري وحبه ل(جدة التاريخية) وقبل أن يصبح وزيراً ل(التربية والتعليم).. من أن يدعو إلى فكرة تطوير منطقة (قصر خزام): بترميم القصر والحفاظ على موجوداته ومقتنياته ليكون متحفاً ثانياً ل(الملك عبدالعزيز) وتاريخه في (الحجاز) إلى جانب متحف قصر المربع في العاصمة الرياض، وتحويل حدائق القصر إلى أراضي ليقام عليها مبنى ل(منظمة المؤتمر الإسلامي)، ومعرض دائم للصناعات الإسلامية، ومركز ثقافي يضم الأعمال الفوتوغرافية التاريخية ولوحات عن الحرمين الشريفين والحياة فيهما.. مع التمدد شمالاً ب(إزالة) عشوائيات (حي السبيل) لفتح طريق مشاة راق، يوصل ما بين القصر وبوابة (باب مكة) إلى الشرق من (برحة العيدروس)، وقد جرى بحث (الفكرة) بحضور أمين محافظة جدة آنذاك المهندس عادل فقيه ونفر محدود من المسؤولين ورجال الأعمال والمثقفين.. فكان الترحيب بها حاراً لا يصدق، إلا أن الشهور أخذت تمضي.. وتعقبها السنين.. دون أن تظهر في الأفق أية بوادر لتنفيذ (الفكرة) إلا مع إزالة عشوائيات (حي السبيل)، و(دعوة) الأمين السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور إحسان أوغلو لمتابعة العرض المرئي لتصميم مشروع (مبنى منظمة المؤتمر الإسلامي) في حدائق القصر، ثم صمت كل شيء بعدها.. سنة بعد سنة، وإلى أن ذهب الأمير فيصل بن عبدالله إلى وزارة (التربية والتعليم).. والمهندس عادل فقيه إلى وزارة العمل، وقدم أمين جديد لمحافظة جدة.. والهيئة العامة للسياحة والآثار لا تفعل إلا أقل القليل من أجل الحفاظ على (جدة التاريخية) التي تمثل البقية الباقية من العمارة الحجازية.. التي انقرضت أو كادت في كل من مكةوالمدينة والطائف!! ولذلك فوجئت بدعوة محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد لإقامة (مهرجان) لجدة التاريخية بمؤازرة رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار الأمير سلطان بن سلمان ودعم أمين محافظة جدة الدكتور هاني أبو راس.. فاستنكرت فكرة إقامة المهرجان.. بداية، وجدة التاريخية على حالها.. الذي أعرفه، والذي أيأسني من التردد عليها لعامين متتاليين.. لأردد بيني وبين نفسي: أألآن تدعون إلى (مهرجان) لجدة التاريخية..؟ ومبانيها تئن.. وشوارعها وبرحاتها وأزقتها تشكو مر الشكوى من إهمال مروع طويل.. فعلى ماذا يقام هذا (المهرجان)، وما الذي سيراه القادمون إليه إن لبوا الدعوة ل(زيارته)..؟! لكن زيارة (الصدفة) التي جمعتني بعمدة حارتي اليمن والبحر: الشيخ عبدالصمد محمد محمود عبدالصمد في مكتبي.. لإسماعي "كلمته" التي أعدها نيابة عن الأهالي لإلقائها في حفل افتتاح المهرجان، والتي عبرت له خلالها عن إعجابي بها.. وخوفي – في ذات الوقت – من (فشل) المهرجان لأن شيئاً لم يحدث في المنطقة التاريخية يستحق رؤيته أو إقامة (مهرجان) له.. ليصحح لي رؤيتي السوداوية اليائسة عن حال جدة التاريخية التي استقرت في حرقتي عليها..!؟ ب(أن الكثير من الترميم والترصيف والإضاءة قد حدث خلال العامين الماضيين) و(أن الممر السياحي الشمالي الذي كنت أتمناه.. قد قام على أرض الواقع)، وهو ما دفعني لحضور حفل افتتاح المهرجان.. وزيارة المنطقة التاريخية في اليوم الثالث من أيامه، وقد اسعدني الكثير مما رأيت من ترميم وترصيف وإضاءة.. إلى جانب فعاليات المهرجانات المعتادة.. بل وهالني ذلك الازدحام الذي رأيته من المواطنين والمقيمين والعرب والأجانب من شتى الدول.. بحد سواء، والذي كان تعبيراً فعلياً عن (النجاح) الذي حققه (المهرجان) على أرض الواقع.. في شوارع وبرحات وأزقة (المنطقة التاريخية)، وهو ما دعاني لأن أكتب بدقة وأمانة مقالي السابق عن (مهرجان جدة التاريخية و"النجاح" المحرج..؟!) الذي نشر في هذه الصحيفة وفي مجلة (رواشين) جدة بالتزامن في 2/ 4/ 1435ه الثاني من فبراير عام 2014م.. ليعقب عليه مشكوراً مدير عام الإعلام والعلاقات العامة ب(الهيئة العامة للسياحة والآثار) الأستاذ ماجد بن علي الشدي في 1/ مارس / 2014م.. أي بعد شهر من نشر مقالي في ذات الصحيفة (البلاد)، إلا أنه ألف ولحن عنواناً آخر لمقالي – الذي سيعقب عليه – هو (مهرجان جدة التاريخية والنجاح المخجل).. وليس (المحرج) كما هو أصل العنوان!! وهو ما ترك لدي انطباعاً أولياً.. بأن تعقيب (هيئة السياحة) سوف لن يكون (موضوعياً) بقدر ما سيكون (وظيفياً) تبريرياً.. دعائياً!! تدافع فيه (هيئة السياحة والآثار) عن نفسها وعن جهودها العظيمة (!!) والأدوار الضخمة (!!) التي قامت بها من أجل صيانة الآثار والحفاظ على المواقع والمواضع ذات القيمة التراثية والحضارية وفي مقدمتها (جدة التاريخية).. وهو ما كان.. عندما أكملت قراءة بقية "العقيب"..! *** فمع (الشكر).. ل(الصحيفة) الذي استهل به – الأستاذ ماجد الشدي – تعقيبه.. على تناولها ل(القضايا المتعلقة بالتراث الوطني)، ولي شخصياً على (اهتمامي بموضوع جدة التاريخية) فقد قفز إلى نقطة سيادية تاريخية حول (الأحساء) لم ترد في (مقالي)، ولم تخطر على بالي.. عند مقارنتي الساخطة على هيئة السياحة والآثار.. ل"عنايتها" واهتمامها (أولاً) ب(الدرعية) التي أعيد بناؤها مجدداً، ولحرصها (ثانياً) على ترميم "حصن" أو (قصر العقير) على شواطئ (الأحساء) الذي زاره الملك عبدالعزيز مرة واحدة بترتيب مع (بريطانيا العظمى) كما ذكرت في مقالي، وتراخيها وإهمالها – في المقابل – لفكرة ترميم وإحياء (قصر خزام) الذي بناه الملك عبدالعزيز وعاش فيه لأكثر من عشرين عاماً.. ؟! وإلى حد إتمام تسجيل منطقة الدرعية – المجددة – وقصر العقير.. لدى منظمة اليونسكو باعتبارهما اثرين نادرين يتوجب الحفاظ عليهما، بينما تعثر بالإهمال والتراخي المقصودين أمر تسجيل جدة التاريخية لدى اليونسكو الذي بدأته قبلهما بأكثر من عشرين عاماً.. منذ أيام أمينها الأول المهندس محمد سعيد فارسي..! لقد انزعجت هيئة الآثار والسياحة.. من قولي بأن زيارة الملك عبدالعزيز لقصر العقير تمت (بالترتيب مع بريطانيا العظمى.. لحل الخلافات بين أصدقائها في الجزيرة العربية من الهاشميين والسعوديين والعجمان).. واعتبرت أن ذلك (رأياً غير دقيق تاريخياً حول زيارة الملك عبدالعزيز إلى الإحساء والعقير).. بعد استحضارها لإيضاح دارة الملك عبدالعزيز بوصفها الجهة المعنية بالتاريخ الوطني – وهو ما أخر تعقيبها على مقالي.. فيما يبدو -, والتي قدمت له إفادة خارج سياق الموضوع – حول تاريخ ضم الإحساء إلى السلطان عبدالعزيز (وأنه كان عام 1331ه - 1913م، وأنه لم تكن لبريطانيا أي سلطة على الأحساء حينها).. ولم يكن ذلك موضوع إشارة مني أو اختلاف عندي، فقد كنت أشير إلى حصن – أو قصر العقير – عام 1922م عندما دعا السلطان – فالملك – عبدالعزيز.. الى مؤتمر في باحته (كانت الوفود الثلاث.. تقيم في ثلاث مجموعات من الخيام) بالترتيب مع المندوب السامي البريطاني – في الخليج السير بيرسي كوكس – وتلك حقيقة ذكرها (الريحاني) في كتابه الشهير (تاريخ نجد الحديث وملحقاته) باعتباره كان أحد حضور المؤتمر، مع حضور وفد عراقي برئاسة صبيح بك نشأت، وحضور الوكيل السياسي البريطاني في الكويت الميجور مورفي.. إلى باحة ذلك القصر الذي زاره السلطان عبدالعزيز لمرة.. استناداً لما قاله السلطان نفسه لحظة لقائه ب(كوكس): (أما مسألة العمارات والظفير فحلها لا يستوجب مجيئنا إلى هذا المكان)!!.. ومع ذلك حظي من قبل هيئة السياحة والآثار بكل تلك العناية.. حتى تم تسجيله لدى (اليونسكو) ضمن التراث الإنساني الذي يتوجب الحفاظ عليه..!! أما بالنسبة ل(جدة التاريخية).. وتسجيلها لدى منظمة (اليونسكو).. وكما افادنا الأستاذ ماجد الشدي – في تعقيبه – فان أمامه مشوارا طويلا بدأ ب(استكمال ملف ترشيحها – كما ذكر – حيث تم تقديمه لليونسكو في يناير الماضي 2013م).. وليس قبل ذلك، وهي معلومة غير دقيقة (!!) ولو أنه قال اعيد تقديمه في يناير الماضي لكان اقرب إلى الدقة، وان "ملفها" – كما تنص الاجراءات – (سيحال بعد القبول الشكلي إلى المجلس الدولي للمعالم والمواقع – الإيكوموس – للتأكد من استحقاق الموقع للتسجيل ضمن قائمة التراث العالمي).. ثم (تأتي بعدها المرحلة النهائية بالتصويت على الموقع خلال اجتماع لجنة التراث العالمي ل(اليونسكو) في دورته الثانية والثلاثين التي ستعقد بدولة قطر في يونيو من العام الحالي 2014م)، وهو أمر يحتاج إلى متابعة حثيثة وجهود مضنية في جمع أصوات أعضاء (لجنة التراث) لصالح ضم جدة التاريخية إلى (قائمة التراث العالمي الإنساني) من قبل وزارة البلديات والهيئة العامة للسياحة وأمانة محافظة جدة.. وهو ما أتشكك في تقديمه (اليوم) قياساً على ما حدث بالأمس البعيد من تقصير وتراخ بل وإهمال واستخفاف عندما تم تقديم (جدة التاريخية) ل(اليونسكو) ك(أول) مدينة في المملكة تطالب بضم تراثها العمراني الفريد إلى قائمة التراث العالمي الإنساني.. فكان ما كان!! مما فوت عليها تلك الفرصة التاريخية بقيمتها الإنسانية الرفيعة.. وحرمها من إمكانية الاستفادة من خبرات (اليونسكو) الفنية والمعمارية الأممية في كيفية الحفاظ على المدن أو المواضع التاريخية أمام سطوة الزمن وتعاقب السنين، وكما فعلت اليونسكو.. في الحفاظ على (تاج محل) الهندي (الأكروبول) اليوناني و(بعلبك) اللبناني.. مثلاً!! *** ثم انتقل الأستاذ ماجد.. في تعقيبه.. إلى معزوفة (الإشادة) بالجهود التي بذلها المحافظ والهيئة العامة للسياحة بل ورئيسها شخصياً منذ خمسة وعشرين عاماً (!!) في الحفاظ على (جدة التاريخية).. وهي جهود كنا نسمع ونقرأ بعقد اجتماعاتها خلال العشرة أعوام الماضية بل ونشارك في بعضها أحياناً.. ولكنها لم تكن بأكثر من جهود (ورقية) تنظيرية.. لم تتحول إلى (فعل) على أرض الواقع، إذ ظلت أفخم وأجمل وأرقى بيوت (جدة التاريخية) تتآكل وتتهاوى ويحترق بعضها بفعل ال(منتفعين) وزبانيتهم.. بينما (المحافظة) و(الهيئة) و(الأمانة) ترمي ب(مسؤولية) المحافظة على تلك المباني على الملاك المتقاعسين مرة، وعلى المختلفين من ورثتهم مرة، وعلى الأوقاف.. مرة ثالثة دون أن تفعل هي شيئاً على أرض الواقع.. إلى أن أمر خادم الحرمين الشريفين بتخصيص مبلغ مائتين وستين مليوناً.. لترميم وصيانة مساجد جدة التاريخية، وهو ما دعاني للاتصال برئيس بلدية المنطقة التاريخية آنذاك المهندس سامي نوار.. والطلب منه الاستفادة من ذلك المبلغ لترميم ما حول تلك المساجد الخمسة من المباني.. إذ إن المبلغ يكفي للأمرين معاً: ل(المساجد) الخمسة ولما حولها.. إذ استُخدم بأمانة ونزاهة..!! *** ربما كان أفضل ما ذكره الأستاذ ماجد في تعقيبه الطويل غير الموضوعي في معظمه.. هو الإشارة إلى إقرار ميزانية خاصة لمشروع تطوير جدة التاريخية من قبل الهيئة العامة للسياحة.. ووضعها بين يدي (الأمانة)، وإلى البدء في ترميم ثمانية عشر مبنى تراثياً من مباني جدة القديمة، أما قوله (بأن قصر خزام يحظى بعناية كبيرة من الدولة) وأنه (تم استكمال التصاميم الهندسية وإعداد الوثائق اللازمة تمهيداً لتنفيذه خلال السنوات الثلاث القادمة).. فهو لم يخرج عن الكلام السابق المكرر والمعاد.. والذي شبعنا وسئمنا منه..!! كنت أتمنى.. لو أن إدارة الهيئة العامة للسياحة والآثار.. جعلت من: (الكلمات الثلاث) التي ألقيت في (حفل افتتاح مهرجان جدة التاريخية) من قبل (رئيس الغرفة)، و(أمين) المدينة، والهيئة نفسها.. إلى جانب دراسة (خارطة الطريق) المنسية التي قدمها مساعد أمين مدينة جدة (المستقيل) الدكتور عثمان عبدالقادر أمير ل(حماية إدارة جدة التاريخية): (بوصلة عمل) تدعو الهيئة العامة لدراستها وتحويلها إلى (خطوات) و(برامج تنفيذية).. لإنقاذ جدة التاريخية.. وفق مساحة زمنية معقولة.. ف(الزمن) لم يعد في صالح أي قدر من التأخير..! ولكن يبدو أن هذا القدر من الجدية – الذي أتمناه – ليس متوفراً لدى هيئة السياحة لإنقاذ هذه البيوت التاريخية.. التي شهدت أربعة منها (نصيف، والباعشن والفضل والبغدادي) مخاض صياغة أول اتفاقية بترولية مع شركة (استاندرد أويل أوف كليفورنيا) في مطالع الثلاثينات من القرن الماضي.. بينما شهد قصر خزام لحظة التوقيع عليها في شهر مايو من عام 1933م، ليتدفق بعدها الخير.. الذي عم ربوع المملكة من أقصاها إلى أقصاها.. بينما نُسيت المدينة (جدة) صاحبة الفضل فيها!!