من هذا – الشباك – الذي نطل منه على ذكريات مضت وقد حرصت على أن تكون لأناس قد كانت لي معهم مواقف مباشرة لا عن شخصيات لها مكانتها الفكرية والأدبية ولكن لا يوجد لهم مواقف معي شخصياً، لهذا أسجل اعتذاري إن أنا لم أذكرهم. ثانياً هذه الذكريات - عن الذين رحلوا إلى بارئهم وليس عن من يعيشون معنا متعهم الله بالصحة والعافية وطولة العمر. لا أعرف لماذا تذكرته الآن .. كان رجلا يبدو لمن يراه انه تخطى السبعين من عمره وذلك لتجاعيد وجهه الطافحة "بخربشات" "السنين" لا أحد يعرف من أين هو؟ واين يقيم، كان حديث الناس في ذلك الزمان اولئك الناس الذين لا يدققون في معرفة هوية من يأتي اليهم أو من يتعاملون معه بل يتعاملون بكل ثقة بل وطيبة معه. ذات يوم سأله احدهم وهو متربع امام بضاعته عن بلده .. نظر إليه دهشاً من هذا السؤال الذي لم يعتاد عليه منذ أن وطأت قدماه هذه الأرض لقد بدى له أنه نسي تلك القرية التي تقع في اقصى الصعيد في مصر كما يظنه البعض انه من هناك لانطباق اسمه على الاسماء التي تتداول هناك أو هو من أرض اليمن كما يعتقد البعض حتى هو نسي من أين أتى.. فتلعثم لبرهة ثم نظر إليه أنا من أنا وراح يبعثر فيما أمامه. لقد أدرك بانه أصبح محل تساؤل من الآخر لكنه ارتاح عندما علم ان من سأله من أهل هذه المدينة الطيب أهلها فلا خوف من ذلك السؤال أخذته الذكرى إلى زمن بعيد عندما قدم "حاجاً" من تلك القرية ليستقر به المقام "هنا" ككثيرين فعلوا ذلك منذ مئات السنين دون حرج أو حتى خوف حيث كان لا حساسيات تجاه أي قادم إلى مدينة الهجرة. كان ذلك الرجل يحمل على رأسه تلك "البقشة" من القماش الملون فيدور بها على الاحياء المعروفة في المدينةالمنورة هذا باب المجيدي وهذا زقاق الطيار وهذا حي التاجوري وهذه الساحة وهذا السحيمي وهذا ذروان وهذا حوش جعفر وذلك حوش المستسلم أو "ابوطافش" وغيرها من الأحياء والأحوشة يدخلها في أي وقت شاء ثم يفرد تلك "البقشة" التي كان يحملها على رأسه مرة وعلى ظهره مراراً يفردها بين يديه فتكشف ما تحتويه من أشكال وأنواع من الحلوى والبسكويت والسمسم وبعض الألعاب المختلفة والمتعددة .. وهناك قصاصات من الأوراق المطوية مكتوب عليها شختك بختك وهو ينادي بصوته الجهوري "فرقنا" "فرقنا" فينثال عليه ابناء الحي والكل يريد ان يفوز بلعبة بعد ان يكون دفع "قرشاً" أو قرشين ليأخذ ورقة مطوية ليفتحها وهو وحظه ان تطلع له حلوى بسيطة أو كرة قدم كانت حلم الكثيرين. لقد كان "عم حسنين" وهذا اسمه صورة "كاريكاتورية" لها طابعها المميز .. كان رجلا رغم وضوح تحركه الا انه كانت تفاصيل حياته غامضة لكنه لم يشكل حالة تساؤل عنه أو حوله. عندما اختفى ايضا لم يثر غيابه تساؤل أي أحد كان واحداً من عشرات ممن درجوا على تراب المدينة الهاضمة لكل قادم إليها بكل ترحيب وسعة صدر بل وحب وايثار. إن عم حسنين القادم من أقصى الصعيد كما كان يدل عليه اسمه "حسنين" المتأخرة عنه ان اسم "حسنين" لم يكن اسمه الحقيقي ولكنه اكتسبه من بعضهم الذين راق لهم اطلاق اسم "حسنين" عليه وقد هضم الاسم هو بكل ارتياح بل واصرار في المحافظة عليه وجد نفسه في ذلك المجتمع حتى انه عجب لذلك السائل الذي سأله عن من أين هو؟ عم حسنين القادم من تلك القرية اليمنية. علي محمد الحسون