ما زالت كلمات ذلك الضابط الشاب الجنوب إفريقي ترن في أذني وهو يصف نيلسون مانديلا بأنه مثل خيط المسبحة التي تربط كل ألوان الطيف الجنوب إفريقي وأنه القاسم المشترك بين كل تلك الحبات المتناثرة التي تحويها المسبحة، وأن وجوده واستمراره هو الضمان لبقاء خيوط النسيج متجانسة ومترابطة ومتطلعة بأمل أن تعبر كافة محطات المصالحة إلى التجانس والعيش المشترك والقبول بالآخر. غياب نيلسون مانديلا الملقب ب"ماديبا" ليس أمرًا سهلاً ولا حدثًا عاديًا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، فالرجل قامة بعلو جبل، وهو إنسان متفرّد وفريد.. متفرّد لأنه لا يعرف الكراهية، وفريد لأنه متسامح حتى مع كل الذين أساءوا إليه.. لم يكن انتهازيًا فحتى الذين ظلموه عفا عنهم وهو في أوج قوته، وهو القادر على الانتقام.. ولكنها خصلة التسامح التي يتسربل بها ذلك الرجل العملاق. الجميع بكوا ماديبا أو حزنوا عليه، ويفتح غيابه أفقًا واسعًا من الأسئلة الصعبة التي ما زالت مشهرة مثل أسنة الرماح في قلب جنوب إفريقيا.. الفقر ما زال شاخصًا في عيون الأغلبية السوداء التي ما زالت تتطلع إلى العدالة التي وعد بها ماديبا.. لأنه كان يُمثل الأمل لشعب جنوب إفريقيا، فإن أحدًا لم يكذبه أو يشكك في كلامه.. فقد كان أيقونة الصمود والتضحية والمناضل الذي لا يمكن أن يزايد عليه أحد، وقبل كل شيء هو منارة التسامح التي لا يعلوها شيء، وهو ما أعطى مانديلا طعمًا خاصًا في تاريخ البشرية المتطلعة إلى الرمز وإلى النموذج. هل سينتبه قادة جنوب إفريقيا وقيادات المؤتمر الوطني الإفريقي بأن فجرًا جديدًا قد وُلد مع رحيل ماديبا وأن عليهم عملًا كبيرًا وشاقًا لردم الهوة بين الأغنياء والفقراء.. والفقر لن ينتظر طويلاً في مواجهة الفروقات الشاسعة بين الذين يملكون كل شيء والذين لا يملكون سوى الأمل في المساواة والعيش الكريم. العمر لم يُسعف مانديلا ليفعل كل ما يريد، فالرجل رغم أعوامه ال 95 التي عاشها، كان جُلها داخل زنزانة مظلمة في جزيرة نائية.. خلفاء مانديلا عليهم عبء كبير حتى لا ينفجر العنف من جديد وتولد الكراهية، ولا بدّ من إنصاف الأغلبية في السكن والتعليم والتوظيف والعمل على تعميق انتمائهم إلى التراب الجنوب إفريقي.. فالانتظار عندما يطول دون أن تلوح في الأفق بوادر انفراجة يكون الانفجار أقرب. الحزن الذي خيّم على العالم بوفاة ماديبا يجب أن يوثق وأن يترك زادًا للأجيال القادمة، كما أن ملحمة حياة مانديلا وصموده ونضاله وكل القيم التي آمن بها يجب أن تدرس لطلاب الثانويات حتى يتعلموا فضيلة التسامح والعيش المشترك. رغم الجرائم البشعة والمقزّزة التي ارتكبها العنصريون البيض في جنوب إفريقيا، إلا أنهم أكثر رقيًا وتحضرًا من العنصرية الصهيونيّة الجاثمة على صدر الشعب الفلسطيني التي تنكر كافة الحقوق المشروعة لأهلنا المغلوبين على أمرهم.. وسنظل نرصد جميع الخطوات في جنوب إفريقيا بعد رحيل ماديبا لنرى حجم ما تحقق من وعود، ولنعرف إن كانت معزوفة التعايش التي بدأها مانديلا بدأت تطرب الجميع خاصة الفقراء.