منذ أن عرفت الحياة أعرف جدة بيضاء.. اللون الابيض يطغي على كل شيء . على المنازل وعلى القلوب.. وعلى الأيدي التي تمتد بالعطاء والبناء ومرت جدة بمراحل البناء المسلح وادخلت الالوان المختلفة على البناء الجديد واجتهدوا في التفنن في الألوان.. ثم أتت المرحلة الجديدة لوضع الرخام وحجر الرياض على الواجهات للبناء الجديد وظهرت المدنية تتنافس في واجهاتها وتميزت من جديد لتكتسب الجودة والنوعية والمظهر والمخبر ولتبقى الى مدى السنين - ان شاء الله - ثابتة قوية.. وحانت اللفتة الى القديم من البناء فتحول الى اللون الابيض .. كل عمارة قديمة لاتبكي وانما عودة الى ماضيك وستضئ جدة في جديد .. بيضاء ناصعة على المنازل على العمارات في كل مكان .. فهل تعود القلوب بيضاء لتقدر الايادي الابيضاء التي تمت بالعطاء والبناء؟ نرجوا ذلك..". قالها رجل الاعمال الاديب الشيخ احمد حسن فتيحي في مقدمة حكاية من حكاياته في كتاب "يحكى أن" الذي صدر في عام 1423ه - 2002 م وقدم له الاستاذ عبد الله عمر الخياط.. من بين حكاياته الكثيرة الممتعة والرائعة تطل جدة القديمة وحياة اهلها وعاداتهم وتقاليدهم . يقول الشيخ فتيحي في احداها .. خرج الابن مع والده يتجولان في جدة القديمة .. يشرح الاب لابنه تاريخ المدينة وتحولاتها .. هنا الكنداسة .. سفارة روسيا- الكركون .. البازان.. الخزنة.. المحكمة.. الكدوه .. بيت فرنسا .. المجتمع " وهكذا مر بأحد الأزقة الصغيرة فقال : كل جدة كانت متقاربة يجمع بينن أهلها صلة القرابة.. المحبة والاخاء..". وعن بيوت جدة القديمة يقول" المبيت.. والخارجة والمركب "المطبخ" والمخزن "الدقيسي" وبعدها بدرجات قليلة الصُفة ..والمؤخرة .. والمجلس وبينهما "بيت الماء" ويحيط جوانب الغرف الدكاك العريضة .. توضع عليها الطاولات والمساند والمدافع والشيش الخشب للنوافذ من الخلف .. والواجهة الشمالية والغربية هي تلك السلطنة الكاملة في جدة. ويستعرض الكاتب الحياة في جدة القديمة في يوم الجمعة بقوله : يخرج الاب مع ابنه من المسجد بعد اداء الصلاة .. بائعو الفاكهة .. كل منهم يعرض بضاعته ويصيح مغازلا بكلمات تطرب صاحبها وتغمز مشتريها دواوير تحمل فواكه متشابهة وغير متشابهة مثلا احدهم يقول بصوت جميل يستدعي زبائنه بعذوبة صوته وخفة ظله وقطرته "تباسي الرز تجلي الهم عن كبدي وكتر الايادي على الصحون تغمني .. ياليل.. ياليل.." وعن العادات يقول " معظم أهالي جدة القديمة بحواريها الاربع يصومون يوم الاثنين من كل اسبوع .. يتناولون الافطار في قهاوي جدة المشهورة ويصلون العشاء وبعدها يتسامرون مع الكتب القديمة " ألف ليلة وليلة أو عنترة بن شداد أو أبوزيد الهلالي" أما الاسواق فيصفها في احدى حكاياته بقوله "في اسواق جدة القديمة .. وكان الكبابجي ودكان الحلاق متجاورين .. وهكذا الحال قديما فليس هناك فرق بين الحداد والصائغ والنجار والمنجد والخياط وبياع الفواكه والعطار" أما ليل جدة "في جدة القديمة الليل يرخي سدوله .. كل في بيته .. لاتسمع غير اصوات الحمير .. ترد على بعضها من عزلة إلى عزلة أخرى.. وكلاب الاحياء تصدر اصواتها المتقطعة . القطط في حركات بهلوانية .. تتحاكى وتتعارك .. الديوك ترفع اصواتها مؤذنة .. اليوم يزور "الطيرمة" فوق اسطح المنازل بين وقت وأخر.. هذه الاصوات الحيوانية التي تعود عليها الجميع .. فلا استنكار لها .. ولا قدرة على اسكاتها .. كل يمارس هوايته .. ينهق .. ينبح .. يموء .. ينعق .. يصيح فوانيس البلدية بضوئها الخافت المتباعد .. وبين الفوانيس "اتريك" وهذا يكفي بالكاد لاضاءة الطريق والعسس تتردد صفاراتهم بين الفينة والاخرى لاثبات وجودهم .. هكذا تمر الليالي . تزامنها الافراح او الاتراح او الاعياد والمناسبات .. كلها استقرار وأمان .. سكينة وطمأنينة .. محبة واخاء .. في هذه الاجواء من جدة القديمة يجتمع بعض الشباب .. يتسامرون في بعض المقاعد في البيوت يلعبون "الضومنة" أو البلوت او الكيرم " او الاحاديث..