كان ذلك كما أذكر في عيد فطر عام 1971م – 1391ه - أي قبل وفاته بعام عندما التقى بجمع من أهالي المدينةالمنورة في ذلك الصالون الكبير يتبادلون التهاني بالعيد السعيد، وكانت أيامها الأزمة الهندية – الباكستانية على أشدها من النزاع أو التنازع، وكانت توقعات البعض من الحضور بأن هذه الأزمة واحدة من الأزمات التي تمر بالبلدين دائماً، وفي الأغلب الأعم سوف تكون على شيء من المناوشات العسكرية، وتنتهي في حدودها. كان هو يستمع الى كل ذلك، وبعد أن صمت المجلس، وكل الانظار متعلقة به، وبما يقوله لمعرفتهم بقيمة رأيه، وبصوته الخافت قال: عندما أنشئت باكستان في عام 1366ه أي في عام 1947م قبل سقوط فلسطين في يد اليهود بعام، كانت باكستان قسمت الى قسمين غربي وشرقي، ويضم ولايات السند والبنجاب وبعض الولايات الاخرى والمقاطعات، وكان محمد علي جناح تولى الحكم بعد قرار التقسيم. كان يومها "السيد" يتحدث عن واقع استقلال باكستان أو انفصالها عن الهند كأنه يقرأ من كتاب أمامه، وقال إن تفتيت المسلمين في دولتين قابلة للانفصال كان هدفاً استراتيجياً لدى الهند ولدى الانجليز، والذي أراه أن هذا النزاع لن يمر بسهولة لابد من تحقيق انفصال باكستانالشرقية عن باكستان الغربية، وسوف يسهل هذا الانفصال الوجود الهندي الجغرافي بينهما أي بين الشرقية والغربية، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك حيث تم ايجاد "بنغلاديش". كان قليل الكلام.. وحصيفاً في رأيه لا يدلي بأي قول لا يرى فيه فائدة أو منفعة، وكان يتابع تحرك ابنه الوحيد، وهو يقوم بكل شؤونه، وشؤون الآخرين في المجتمع. كان سعيداً به فرحاً بحضوره، وإن كان يهمس له ببعض المرئيات التي خبرها بحكم التصاقه بالقضاء وبما كسبه من معارف.كان يطلق عليه بعض القريبين منه بالحكيم الذي يرى ما ورائيات الأشياء فيعطيها حكمه الذي قليلاً ما يخيب. كان له مجلسه في مدخل البيت الكبير على يسار الداخل إلى – بهو – المنزل دائماً متدثراً بعباءته شتاءً وبمشلحه صيفاً.يستقبل من يأتيه في هدوء، ويمضي معه بعض الوقت مستمعاً أكثر منه متحدثاً ثم يهمس في اذنه بما يرى من القول ويمضي ذلك راضياً بما سمع مقتنعاً بما توصل إليه من رأي وحكمة، وبجانبه مذياع لا يتحرك مؤشره عن اذاعة لندن B.B.C..عند آذان الظهر يلف جسمه النحيل في "مشلحه" الخفيف، ويمتطي سيارته، ويذهب الى المسجد النبوي الشريف لأداء صلاة الظهر أو المغرب حاضراً.. هكذا يمضي يومه في صمت المتأمل، وفي حركة الفاحص عن خفايا الأشياء. تراه فتحسبه لا شأن له بما يدور حوله، وإذا تأملت في نظراته تدرك كم كنت جاهلاً بما ينطوي عليه من حكمة ودراية انعكست على ابنه الوحيد الذي كان انعكاساً لتلك الحكمة، وترجمة لتلك الرؤى التي كان يتمثلها في هدوء الواثق، وفي معرفة العالم الذي يكون في صمته أكثر كلاماً وفي بطء حركته أكثر اقداماً. إنه السيد محمود أحمد الفيض آبادي رحمه الله واسكنه فسيح جناته.