ظل بالمستشفى بباريس أكثر من عام .. أُجريت له ثلاث عمليات جراحية كبيرة في أحد فخديه .. كنا على اتصال به يومياً .. نُخبة كنت أتشرَّف بوجودها ليلياً بالدار .. خلا المقعد الذي كنت تجلس عليه يومياً يا أبا محمد .. ولكن الغيبة هذه المرة كانت بحق مؤلمة وقاسية .. لأنه سبق ذلك أمل كبير .. وكان الجميع يرقب عودة هذا الصديق الذي كان مجرد دخوله للمجلس يُضفي عليه نشاطاً ويشيع في النفس بهجة ومرحاً وسروراً .. أبو محمد يتجلَّى في هذه الأحاديث ولكنه كان يكره الخلط بين لحظات بدأت بما يُعطي النفس شيئاً من الراحة والهدوء وبين ما يطرأ من أخبار أحداث توجع القلب .. ثم بهذا النقاش ونعود إلى استئناف ما كنا فيه قبيل لحظات .. تستهويك تعليقاته المرحة .. تُصغي إلى أحاديثه إصغاءً موزوناً فهو مرَّ بصنوف من الأحداث كان يُعالجها بالحكمة وما يُرضي العابرين عن طريقه في العمل .. له مواقف وطنية يعرفها المسؤولون لذلك اهتم بمرضه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز يرحمه الله اهتماماً كبيراً في أمر العلاج .. ولكن الذي حلَّ به كان مستعصياً على العلاج .. كنت أُصغي إليه يومياً تقريباً عبر الجوال من باريس عن ما تكشَّف له من الأطباء هناك والذين لا يُعطون الحالات النفسية للمريض حساباً بل يصارحونه بكل ما فيه .. كنت أحاول بكل ما استطعت أن أُهون الأمر أوالعارض الذي حلَّ به فجأة .. عمليات ثلاث متسللاً إلى الداخل ينقل إليه أطباؤه الخطورة التي غطَّت كل آلام عام مضى ليُصارع من جديد حدثاً خطيراً .. ولأول مرة أجد في تعبيراته أو كلماته معاني اليأس والاستسلام للقضاء في إيمان ورضاء بما يُرضي الله في علاه .. في الواقع أحسست بالفاجعة .. تحولٌ طارئٌ غيَّر صموداً على مدى عام كامل عهدته فيه .. ولمحت إليه كأنني أُشجعه الانتقال إلى ألمانيا .. ولكز . " وإذا المنية أنشبت أظفارها .. ألفيت كل تميمة لا تنفع " . انتقل إلى ألمانيا ولم يتغير رأي الأطباء .. والطبيب الألماني قد تزيد جرأته في مصارحة المريض عن غيره .. وصعدت إلى المطار لاستقبال في طائرة أمر بها لنقله إلى أمريكا الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز .. صعدت إليها في السلم احتضني .. أحسست أن هذا الاحتضان يشترك فيه اللقاء والوداع .. تبع ذلك نوم بإحدى مستشفيات جدة وتحضير للسفر الأخير .. يا أبا محمد استقبلتك في الأول ، واستقبلتك في الاستقبال الأخير .. كان الأول فيه أمل كبير والأمل في الله أبداً لا يخيب وسيظل قائماً مادام هذا الوجود .. ولكن الاستقبال الأخير تلاه وداع أخير .. يرحمك الله ويُغدق على الأحبة إخوانك وأبنائك وبناتك وهم في ثنايا القلب سيظلون .. فالصبر والعزاء الجميل " إنا لله وإنا إليه راجعون "