لم يكن سرًّا أنه في خضم الثورات العربية أعرب الكيان العبري بمختلف مستوياته السياسية والأمنية والعسكرية عن قلقه العميق إزاء وضعه الإستراتيجي في المنطقة، واحتمال نشوب صراعات مسلحة معه على جبهات متعددة، لكنه اليوم _وعلى النقيض من ذلك_ ربما يبدو بوضع متفائل وحذر حيال ذلك لأسباب وجيهة. ومع ذلك من الواضح أن صدى القضية الفلسطينية لا يزال يتردد في المنطقة، وينبغي التصدي لها، ومعالجتها لدفع الفلسطينيين إلى إحراز تقدم على جبهات أخرى، وعلى هذا إن مشاركة الكيان مصمَّمة لإزالة مظهر التعنت، وتسهيل الحوار مع دول المنطقة بشأن القضايا الأخرى . في المقابل، إن أعداء الكيان العبري في العالم العربي يبدون ضعفًا شديدًا؛ فالمجتمع العربي باقٍ على حاله، ومعظم الدول العربية غارقة في مشاكل داخلية كثيرة، وتقارير الأممالمتحدة بشأن التنمية الاجتماعية والفكرية فيها تشدد على وضعها المتخلف مطلع القرن الحادي والعشرين، وهي تصارع تحديات التحديث، وتعيش حاليًّا في حالة انعدام اليقين، خصوصًا في مرحلة ما بعد التقلبات العربية. وهذه الدول منشغلة بأزمات اقتصادية، اجتماعية وسياسية خطيرة، ولا طاقة لها أو موارد تمكنها من بناء منظومات عسكرية شديدة البأس قادرة على مهاجمة الكيان، وقدرتها على تهديد الوضع القائم عسكريًّا محدودة جدًّا. وفي الوقت الذي تعاني فيه العديد الدول العربية مجتمعة تراجعًا اقتصاديًّا، إن دول الربيع العربي بالتحديد تشهد تدهورًا غير مسبوق؛ بسبب الاضطرابات الأمنية أو ابتزاز الدول الكبرى، ما يفسح المجال للكيان العبري صاحب الاقتصاد القوي، إذ ترتبط قوته بقدراته الاقتصادية ومع ذلك مازال الكيان يواجه تحديًا عسكريًّا متعاظمًا. أخيرًا: إن الوقت الراهن يشير إلى أن الوضع الإستراتيجي للكيان العبري أفضل مما كان عليه في بدايات انطلاق "الربيع العربي"، وربما يشهد ذلك على الجمع بين "المهارة والحظ" اللذين تمكن بهما من الإبحار في خضم الاضطرابات التي تحيط بالمنطقة، على الأقل حتى الآن. والتأمل في الواقع العربي، واستشرافاته المستقبلية في قادم الأيام يعطينا جرعة تشاؤم من العيار الثقيل، ويمنح الكيان العبري فرصة تاريخية قد لا تتكرر في ترسيخ وجوده، ولعلنا لا ننسى ما قاله "بن غوريون" الرئيس الأول لحكومة الاحتلال عقب تأسيس الكيان: "أيها الإسرائيليون، إنكم لم تنتصروا على العرب لقوتكم فحسب، ولكن لضعفهم أيضًا".