ما هو قانون الأخلاق ؟... وهل هو من القوانين أسوة بغيره من القوانين الوضعية التي سنّها البشر والتي أدرجت ضمن دساتيرهم كي تُنظم حياتهم وتحكم علاقاتهم وأساليب التعامل فيما بينهم؟... ولو كان كذلك فلِم لاتوجد له تلك العقوبات الرادعة التي تُطبق على من يُخالف القوانين الوضعية الأخرى؟ ... قانون الأخلاق ليس في الحقيقة من القوانين الوضعية المكتوبة وإنما هو حاجة وضرورة اجتماعية نشأت منذ بدء الخليقة لكي تُهذب طباع البشر وتضبط تصرفاتهم بصرف النظر عن أعراقهم وأجناسهم ودياناتهم وطباعهم.. كل منا يعلم جيّداً بأن الإنسان كائن تجتمع فيه كتلة من الأحاسيس ومن الطباع المختلفة التي قد تكون أحياناً مُتناقضة., وبأن لدى كل كائن بشري في أعماقه غريزة ما يُطلق عليه حب البقاء وبأن لديه ذلك الشعور بضرورة الدفاع عن النفس وعن المصالح الشخصية... فقد يكون لدى المرء الكثير من الميل إلى الخير والصدق والتضحية والتسامح والعطاء والتعاطف , لكنه قد يحمل في أعماقه وفي أغوار نفسه بذات الوقت , بعض الغرائز التي تُناقض تلك الصفات الحميدة والتي قد لا تظهر إلا عندما يجد نفسه أمام الخيارات التي تتحدى حبه لذاته ودفاعه عن مصالحه وبذلك قد تسيطر عليه وتوجّهه تلك الغرائز والطباع السيئة عندما تصبح مصالحه في كفة الميزان , منها الميل إلى الانتقام أو إلى الظلم أو إلى الحقد الخ... وقد تتغلغل الشرور في نفسه شيئاً فشيئاً وتنعكس على تصرفاته تجاه الآخرين... وقد تكون لدى الشخص ثروة كبيرة, وقد يحصل على مرتبة اجتماعية أو سياسية رفيعة , وقد يؤدي ذلك إلى أن يُثمّن نفسه بأكثر من الآخرين ويُصيبه الغرور فيُصبح متكبراً صلفاً يتصرف بتعالٍ تجاه من هم أقل مرتبة منه... لذا فإن قانون الأخلاق برأيي هو القانون الأكثر أهمية وبأنه القانون الذي من شأنه أن يضبط تصرفات البشر ويكبح أحاسيسهم وتصرفاتهم وهو الذي يقودهم إلى التصرف السليم حتى من الناحية القانونية بحيث يُعرض عن ارتكاب كل ما يعاقب عليه القانون.. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف سيتم إلزام المرء بمثل هذا القانون غير المكتوب والذي ليست له عقوباته الردعية؟ وما هي الضوابط التي تكفل تطبيقه؟.. والإجابة التي لا جدال فيها هي بأن من المُفترض أن يكون الضابط الوحيد لضمان تطبيق هذا القانون هو ضمير الإنسان وتربيته الدينية التي تحتل بالطبع المرتبة الأولى.. فمن صفات المؤمن الحقيقي تحلّيه بمكارم الأخلاق كما أن إيمان المرء لن يستوي إلا إذا كان صادقاً أميناً شريفاً كريماً سوياً في تعامله مع الآخرين. وبذلك بإمكاننا أن نضع الإيمان في المرتبة الأولى لما يوجّه إلى مكارم الأخلاق . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم وإنما يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق « « حسن الخلق ذهب بخيرّي الدنيا والآخرة.» « إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق « وتليه في المرتبة الثانية التربية الأنظمة الاجتماعية التي من شأنها أن توجّه المرء نحو السلوك السوي وإلى التحلّي بمكارم الأخلاق, وإلا فسوف يجد المرء نفسه منبوذاً وسوف يفقد احترام من حوله وهو ما سيؤدي إلى ابتعادهم عن التعامل معه مهما حاول إخفاء طباعه الحقيقية تحت ستار من التهذيب الكاذب. ونظراً لأن قانون الأخلاق لم يكن كافياً لضبط تصرفات البشر فليس بالإمكان فرض السلوك السوي على جميع الأشخاص لاختلاف طباعهم وميولهم كما أوردنا , لذا فقد وجد البشر أنفسهم بأمسّ الحاجة إلى سنّ القوانين الردعية الأخرى بغية تحقيق العدالة الاجتماعية وإحقاق الحقوق ومنع انتشار الفوضى في المجتمعات. ولابد من الإشارة أيضاً إلى أن قانون الأخلاق الذي يضبط تصرفات البشر كان دوماً, بعد التعاليم الدينية, الأساس الذي استند إليه مشرعو الكثير من القوانين الوضعية. كما لابدّ من الإشارة إلى إلى أن قانون الأخلاق يختلف عن غيره من القوانين بما قد يكون له من تأثير أعمق على شخصية وعلى نفسية من يخالف أحد القوانين الوضعية. فعلى سبيل المثال قد يتمكن المجرم من الإفلات من عقوبة القانون لكنه نادراً ما قد يُفلت من الشعور من وقت لآخر بعدم الراحة, كما قد يلازمه الخوف طوال حياته فيقضّ مضجعه بالكوابيس., وهو بذلك وإن كان قد أفلت من عقوبة القانون لم يُفلت من الخوف أو من عذاب الضمير... هناك نوع من الجرائم التي قد لا يُعاقب عليه القانون لكنها تُعتبر من الناحية الأخلاقية من أشنع الجرائم وأخطرها وهي بما بإمكاننا أن يُطلق عليه تعبير «الإجرام السلبي» وذلك عندما يكون بإمكان المرء أن ينقذ حياة شخص ويمتنع عن ذلك... أو أنه قد يمتنع الشخص عن الإدلاء بشهادة من شأنها أن تُنقذ شخصاً بريئاً من الحكم عليه بجريمة لم يرتكبها ويكون هو الشاهد الوحيد على براءته... أو قد يمتنع عن التدخل لإنقاذ سمعة شخص اتهم باطلاً بما يُسيء إلى أخلاقياته وكرامته مما يؤدي إلى خسارة ذلك الشخص لعمله أو لحياته الزوجية وإلى تحطيم عائلته. وهناك أيضاً ما بإمكاننا أن نطلق عليه تعبير « الإجرام الخفي» وذلك بأن يقوم شخص بزرع بذور الفتنة بين زملائه في العمل بسبب الغيرة أو الحقد ., أو عندما يزرع الشكّ بمصداقيتهم لدى رؤساء العمل., أو عندما يسيء استخدام المنصب بأن يتقاضى الرشوة أو بما قد يُطلق عليه في عصرنا العمولات لقاء تسهيل أعمال فئة من الأشخاص على حساب حق الأولوية للآخرين...الخ هناك حالات لا حصر لها لمثل هذه الإساءات التي قد لا يَطالها القانون والتي من المفترض أن يكون الرادع لعدم ارتكابها هو قانون الأخلاق , وقانون الأخلاق فقط لا غير... لذا فهو كان قانون الأخلاق ولايزال ضرورة وحاجة اجتماعية مُلحّة , وهو العماد والسبيل إلى تقدّم الأمم وهو وسيلة التوصّل إلى المجتمعات الفاضلة.