وهناك من يجعل التحكم في الغرائز راجعًا إلى القدرة العقلية التي يملكها الفرد. والمقصود بالقدرة العقلية هنا الذكاء الاجتماعي (وليس الذكاء المعرفي)، وهذه ملَكة تجعل صاحبها قادرًا على التحكم في رغباته بإرادته، فقد يمتنع عن الأكل مثلًا وهو جائع إذا كان ذلك يتعارض مع قيمة أخلاقية يؤمن بها الهوى من الكلمات التي تحوي مجموعة دلالات لغوية، منها الميل إلى الشيء وعشقه، واتباع الرغبات، والسقوط، والإسراع، وغيرها من الدلالات التي حفلت بها قواميس المعاني. وهي دلالات تجتمع في جذر مشترك يشير إلى الحركة المتّجهة إلى مقصد محدد. ومن أبرز الدلالات الإيجابية للهوى التي حفلت بها الثقافة العربية هي الإشارة إلى درجة من درجات الحب تتمثل في هوى المحبوب، كما قالت رابعة العدوية: (أحبك حبين: حب الهوى، وحبًا لأنك أهلٌ لذاكا)، والهوى هنا يعني الميل الذي يتضمن سقوط الحب في قلب المحبوب وبقاءه فيه مع صعوبة خروجه منه. ومن المعاني السلبية للهوى الإشارة إلى ما يسمّى ببنات الهوى اللاتي يتبعن رغبات شهوانية مرتبطة بالجانب الحسي الحيواني. وثمة معانٍ أخرى تتراوح بين هذين المجالين، أي بين الحب السامي، وبين ممارسة الرذيلة. وضمن الممارسات الاجتماعية والثقافية للناس يحصل الخلط والتداخل في المفاهيم وتسمّى الأشياء بغير دلالاتها. ومن الكتب التي قرأتها واستفدت منها لمناقشة هذه المستويات اللغوية ودلالاتها مربوطة بالممارسات والنتاج الأدبي كتاب طوق الحمامة لابن حزم. وإذا أخذنا دلالة الهوى التي تعني اتباع الرغبة، فسنجد أن هذه الرغبة قد تكون حسية متمثلة في الشهوات المادية، وقد تكون مجردة كما تظهر في جميع أشكال التعصب. ومن الطبيعي أن الرغبة تجذب المرء إليها، من منطلق أن هذه الرغبة هي حافز فطري لدى الإنسان للحفاظ على وجوده. فالرغبة في الأكل أو الشرب أو النوم ..إلخ تدفع الشخص للبحث عمّا يحقق ذلك لكي يبقى على قيد الحياة. ولايختلف الناس في مستوى هذه الرغبة أو قوتها، ولكنهم يختلفون في القدرة على السيطرة على الرغبة أو التحكم فيها. وتتباين الدراسات حول تحديد العنصر المهيمن في التحكم بسلوك الناس، ويناقش الباحثون الجانب العقلي والعاطفي، فهناك من يرى أن الشخص العاطفي يغلب عليه الميل إلى الهوى، وتضعف قدرته في السيطرة على رغباته حينما يجد المغريات، في حين يميل الشخص العقلاني إلى التروّي لأنه يستطيع أن يسيطر على رغباته بكل سهولة. ولعل أبرز مثال لذلك ما نراه من اندفاع بعض الأشخاص على الأكل حينما يكون أحدهم جائعًا، فلاينتظر الآخرين، ويبادر إلى التهام الطعام بشراهة دون أن يأبه بغيره؛ لأن قدرته على التحكم في هذه الغريزة ضعيفة، ويصح معه أنه لايستطيع التحكم في أقواله حينما يغضب فقد يشتم أو يعتدي على أحد بالكلام المهين، كما لايستطيع التحكم في تصرفاته أمام أي إغراء خارجي. وقد عُملت دراسة لغوية نفسية للنظر في طريقة الضحك عند الشخص وربطها بطريقته في المشي وفي الأكل، وعلاقة ذلك بقدراته العقلية والنفسية. وقد تتاح لنا الفرصة مستقبلًا لأستعرض هذه الدراسة. وهناك من يجعل التحكم في الغرائز راجعًا إلى القدرة العقلية التي يملكها الفرد. والمقصود بالقدرة العقلية هنا الذكاء الاجتماعي (وليس الذكاء المعرفي)، وهذه ملَكة تجعل صاحبها قادرًا على التحكم في رغباته بإرادته، فقد يمتنع عن الأكل مثلًا وهو جائع إذا كان ذلك يتعارض مع قيمة أخلاقية يؤمن بها دون أن يدور في خلده أي ندم على ذلك. ولهذا نجد نماذج كثيرة من هذا النمط من الشخصيات ممن يعزفون عن المال أو الجاه أو المنصب، ويقتنعون بالبساطة وهم سعداء لذلك. وما سبق عن الرغبات التي تبدو حسية ينطبق كذلك على الجوانب المجردة التي تدفع المرء نحو سلوك معين. ومن ذلك التعصب، فهناك من يتعصب بقوة إلى رأي معين ويصرّ عليه حتى لو كان هذا الرأي خاطئًا واتضح له أنه خاطئ ولكنه يبقى أسيرًا لرغبته التي تمنعه من التسامح في ترك ماكان يراه، ولهذا صار الهوى بهذا المعنى أشبه ما يكون بمصيدة فكرية يقع فيها المرء ويتورط بداخلها ولايستطيع الفكاك منها. ونجد أن الثقافات تمجد الشخص الحرّ، وهو القادر على التحرر من رغباته الذاتية التي تشمل الغرائز والميول. وهذا الشخص أقرب مايكون إلى الدقّة في تصوراته للأشياء والأشخاص والعلاقات، وهو متوازن في رؤيته للعالم. ومن هنا، فإنه أقرب إلى العدالة في أحكامه التي تظهر في تصرفاته مع الآخرين وفي سلوكه المسالم مع ذاته.