واقعنا العالمي المعاصر يجمع الكثير من المتناقضات، حيث ترى قمة التقدم العلمي والتقني مع قمة التخلف الروحي والأخلاقي، ترى القوة فوق الحق بدلاً من أن يكون الحق فوق القوة، ترى ديمقراطية يكثر عنها الحديث ولكنها في حقيقتها ديمقراطية ظالمة لأنها تركز الثروة والسلطة في أيدي القلة، ترى شركات عملاقة متعددة الجنسيات وعابرة للقارات وترى عالماً يشكو من التصحر الاقتصادي، ترى هيئة الأممالمتحدة والتي نشأت لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وترى عالماً يشكو من نقص الديمقراطية وتدهور حقوق الإنسان، ترى مجلس الأمن الدولي الذي يزعم أنه يعمل لفرض الحق والعدالة في العالم، بينما ترى الدول العظمي فيه تملك حق النقض (الفيتو) وهو يعطى الحق لأي دولة عظمى أن تبطل أي قرار مهما كان عادلاً وحقاً وإن اجمعت عليه كل دول العالم، إنه عالم ملئ بالمتناقضات وهو في أشد الحاجة إلى إحلال التوافق محل التناقض وإلى أن يكون الحق فوق القوة، وإلى إحلال الحرية محل الإباحية، فالحرية هي حرية فعل الصواب بينما الإباحية هي حرية فعل الخطأ. إن كل عاقل حر يعيش في عالمنا المعاصر، هو وحده الذي يرى الحريق الهائل الذي يشتعل في العالمين المتقدم والمتخلف على السواء، هو وحده الذي يعتصر قلبه على كوكبنا ومسيرتنا نحو الفوضى والانتحار. إن المفكر الصادق هو العاقل الحر أو الفاهم الشجاع، والشجاعة عند "جان جوريس" هي: أن تبحث عن الحقيقة وتقولها، وهي ألا تترك للقوة أمر حل النزاعات عندما يكون بوسع العقل أن يحلها ، وكل شجاع هو الحر الحقيقي لأن الحر هو الذي يرفض الذل والظلم فيتحرك لمقاومته.وتبدأ حرية الإنسان الحقيقية من داخل نفسه، فتحرره من ضغط الرغبات والمطامع، وما تجلبه عليه من حاجات ومخاوف ، وضياع هذه الحرية الداخلية النفسية أو تزعزعها هو المقدمة الضرورية لكل شر وضلال وما من ظالم إلا وأداته إنسان تستعبده مطامعه وشهواته، وما من استبداد أو طغيان اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي يمكن أن يوجد إلا إذا كانت النفس قد فقدت حريتها الداخلية وصارت ناضجة لكي تستعبد أيضاً من خارجها. إن المفكر الذي يعرّف الناس الحق ويوصيهم بالإيمان به وتقديره إنما يقوم مع الناس بالنصف الأول من وظيفته وهي "التواصي بالحق" ويبقى النصف الثاني والمهم من وظيفته ومهمته العظيمة وهو "التواصي بالصبر" ويعنى دعوة الناس إلى الصبر على تحويل معرفة الحق من المعرفة العلمية إلى الواقع العملي، فإذا كانت قواعد البناء لشخصية المفكر هي "آمنوا وعملوا الصالحات" فإن مهمته في بناء الآخرين هي "وتواصوا بالحق" و"وتواصوا بالصبر" هذه هي مهمته التي نحن في أمس الحاجة إليها في عصر تراجعت فيه أمتنا بعد التقدم وضعفت فيه بعد القوة وافتقرت فيه بعد الثراء . لقد كان العرب فاعلين في تطوير الفكرة العلمية، إن تلك الإنجازات تمثل ما كان عليه العالم الإسلامي في الماضي، وما يمكن أن يكون عليه في المستقبل". ولكي ننتصر في معركة التطوير والإصلاح ، على المفكرين العرب أن يشحذوا عقولهم وهممهم لإيقاظ أمتنا وتقوية همتنا، فمهمة المفكرين لا تقف عند حد إيقاظ الأمة من غفلتها وكشف المخاطر التي تتهددها وتوضيح الأهداف الكبرى التي يجب تحقيقها لحفظ مصالح الأمة واسترداد حقوقها، بل لابد أن تكون مهمتهم أيضاً رفع همة الأمة واستنهاض همة الحكومات العربية وجامعة الدول العربية ومؤسساتنا المدنية ومراكزنا البحثية والدراسية والعلمية، لينهض الجميع ويتعاون الجميع في صد الهجمة الشرسة التي تتعرض لها أمتنا وثقافتنا وحضارتنا وهويتنا ومواردنا. ويجمع الخبراء في بناء الأمم ونهضتها على أن أي خطة لإيقاظ أي أمة واستنهاض همتها لابد وأن تكون صادرة ونابعة من ثقافتها، فعلى المفكرين العرب أن يغوصوا في بحار ثقافتنا العظيمة وتراثها المبهر الذي أدهش مفكري العالم حين عرفوه، ليستخرجوا لنا أقوى وأجود مواد البناء لإقامة القواعد المتينة التي نؤسس عليها وبها خطة النهضة لأمتنا العربية في واقعنا المعاصر.