ما أجمل وأبهى العلم فهو كالنور الساطع في السماء الذي لا تحجبه غيوم , ولا يشكك في ذلك إلا جاهل أو فاقد للبصيرة . ونحن نتمنى أن يسطع علينا ذلك النور من تلك الموجات المتتابعة من البعثات الدراسية الخارجية , والتي يذهب إليها أبناؤنا ليتزودوا من العلم عسى أن يرجعوا لنا ما مضى من ماضي عريق ملئ بالانجازات والاختراعات. إن المقصد الأول والأهم من تلك البعثات هو النهوض والتطور لمملكتنا الحبيبة إلى مصاف الدول المتقدمة , والمساهمة في صناعة حضارة قادمة مشرقة نفخر بها , وكل فرد في وطننا الغالي يتمنى ذلك وبدون أدنى شك. إن هؤلاء الشباب عندما يرتحلون لطلب العلم في الغالب تكون أعمارهم مابين الثامنة عشرة إلى الواحدة والعشرين , وفي هذه السن المبكرة واليافعة يبدأ التكوين الفكري لديهم , وتبرز محاولاتهم لإيجاد طريق بين المذاهب الفكرية المعاصرة بمختلف أطيافها وتنوعها . ويبدأ في خضم ذلك الصراع الداخلي لدى الشباب الذين ربما انتقلوا حديثاً من مجتمع محافظ يقدر ويحترم الدين و العادات الاجتماعية القيّمة إلى عالم قد لا يلتفت إلى هذه الأمور البتة إلا فيما ندر. إن هذا الصراع الداخلي الذي سيعيشه الشباب في الغربة هو الذي يولد لدينا الخوف والقلق عليهم من أن يلبسوا حلة غير حلتهم , وأن يعودوا إلى أرض الوطن بوجه غير الذي ذهبوا به . وهنا تبرز أهمية أن يحصلوا على دورات وبرامج منهجية مكثفة , وأن تكون حقيقة فعّالة وليست صورية ! , وذلك لتوعيتهم وتثقيفهم عن اختلاف الأفكار والثقافات والعادات بين الحضارات قبل الابتعاث. وأن يكون ذلك إلزامياً ومن ضمن برنامج الابتعاث الخارجي. هذه الدورات والبرامج ضرورية جداً حتى لا نقع في الفخ ونكرر نفس الأخطاء التي وقعت فيها البعثات الأولى من بعض الدول العربية في بداية القرن العشرين , لأن من المبتعثين من رجع إلى وطنه بفكر مختلف وآراء فيها شطحات جسيمة مؤلمة, ليصبحوا نسخة مكررة للفكر الذي شاهدوه وتعايشوا معه . ولعل جبران خليل جبران قالها يوماً بكل وضوح « الشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى متعمد أميركي , والشاب الذي تجرع رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيراً فرنسياً, والشاب الذي لبس قميصاً من نسيج روسيا أصبح ممثلا روسيا «. إن المقصد الأهم من الابتعاث الدراسي هو معرفة أحدث من توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا في مختلف مجالاتها ,وليس المقصود محاولة إيجاد بدائل لثوابتنا التي لا تقبل العبث أو اللعب الصبياني !! . قال الأديب الشيخ على الطنطاوي رحمه الله في عام 1929 ميلادي واصفاً الزمن الذي عاصره « لقد قدر الله أن نكون في عصر أصبح فيه شبان العرب لا يرون لأنفسهم فخراً أكبر من تقليد الغربيين واقتفاء أثرهم فيما يضر وما ينفع «. إننا نرى البعض وللأسف يتمنى أن يقلد مشية غيره, ونحن نخشى أن يصبح مثله كمثل ذلك الغراب الذي لم يستطع أن يقلد مشية الطاووس المختال, ولا أن يعود صحيحاً إلى مشيته الطبيعية.