أصابتني الدهشة (وشيء من الغضب) حين قرأت في صحف الأسبوع الماضي خبرًا مفاده أن شرطة مكافحة التهريب بولاية كسلا تمكّنت من إحباط محاولة تهريب كميّات كبيرة من "الجن الحبشي" إلى داخل السودان. لماذا يُهرّب الجن إلى السودان؟ . وللجن سمات بارزة تميّزه عن غيره أهمّها ما يُسمّيه علماء النفس الفرنجة "إيذاء الذات"، ويُسمّيه عامتهم "إطلاق الرصاص على قدمك"، ويُسمّيه العرب "جدع أنفك نكاية في وجهك"، و"إيذاء الذات" مرض نفسي يدفع المصاب إلى خبط رأسه بالجدران الصلبة، أو خدش وجهه وعنقه بأظفاره، أو جرح أطرافه بالشفرات الحادّة، أو الإتيان بكل ما من شأنه إلحاق الأذى بنفسه وبمن حوله حتى ولو قاد ذلك لهلاكه وهلاك من حوله. ومن السمات الأخرى للجن الوسواس القهري، وهو مرض نفسي يجعل المُصاب به يؤمن بأن الجميع يتآمرون ضده ويُحيكون له الدسائس، يرى الأعداء في كل ركن، ويشك في كل من حوله، ويُلقي عليهم باللائمة في كل ما يُصيبه، حتى يبلغ به الحال مبلغًا يحعله يشك في خاصته وأهله وأصدقائه، فيتمترس خلف وساوسه خائفا يترقب من أين تأتيه الضربة. ويقترن الوسواس القسري في أحيان كثيرة بجنون العظمة الذي يجعل المُصاب به يتوهم لنفسه مكانة متفرِّدة (أنا نابليون، كما يقول مجانين فرنسا) يجب أن تُفسح لها القيادة والريادة. ومثل نابليون، يُريد المريض امبراطورية مترامية الأطراف يقودها، تُغطي العالم العربي وأفريقيا مثلا، أو الأمة الإسلامية، أوالعالم الثالث، إن لم يكن العالم بأسره. كذلك فصام الشخصية (الشيزوفرينيا)، وهو مرض نفسي يجعل للمريض شخصيتين (أو أكثر)، مختلفتين متشاكستين متناقضتين، تنسخ الواحدة منهما ما تقوله أو تقوم به الأخرى. تتحدّث واحدة عن طهر اليد، وتغمس الأخرى ذراعيها حتى الإبطين في مال السحت؛ تُنادي واحدة بالصدق في تبتل، وتكذب الأخرى وتتحرى الكذب دون وجل؛ تلتحف واحدة بزهد السلف الصالح وخير الآخرة، وترفل الأخرى في نعيم الدنيا وبهرجها؛ تتغنى واحدة بالوفاء، وتشرع الأخرى خنجر الغدر؛ تجنح واحدة للسلم وتُنادي به بينما تدُقّ الأخرى طبول الحرب وتُعد لها؛ تُظهر واحدة الرحمة واللين تجاه الآخرين، بينما تُبطن الأخرى عُنفاً وحشيّاً وقسوة لا يحدّها وازع. ويقترن فصام الشخصية في أحيان كثيرة بمرض نفسي آخر هو الإنكار المَرَضي المُزمن الذي يجعل المريض يُنكر أفعاله وأقواله فور صدورها، ويُكرّر ذلك كل يوم دون أن يطرف له جفن. حين كانت مدينة عطبرة القلب النابض لسكك حديد السودان (التي قُبرت)، طالب عامل بسيط بجعله مديرًا لسكك حديد السودان إبّان مجدها، فقالوا له، يُسايرونه، لكنك لا تتحدّث اللغة الإنجليزية. أطرق برهة ثم قال: "طيب، أيتحدث مدير السكة الحديد في لندن اللغة العربيةّ؟!" وفي رواية أخرى، عاد مريض كان نزيل مستشفى الأمراض العصبيّة لسنوات إلى داره ذات صباح باكر وطرق الباب. ولما فتح أهله الباب وجدوه عاريًا . ولما سألوه عمّا حدث قال لهم دون تلجلج: "طِبْتَ (شفيت) وخرّجوني!" لماذا، إذن، يُهرِّبون لنا الجن الحبشي عبر حدودنا ونحن، والحمد لله، لنا ما يكفينا ويزيد من الجن المحلى؟! كاتب سوداني