في اللحظة الرَّاهنة تجري مراجعة عميقة، عبر العالم كلّه، للكثير من المسلّمات والشعارات السّابقة. من بينها مراجعة لموضوعي الديمقراطية والرأسمالية. بالنسبة للديمقراطية أصبح واضحاً أن الكلمة تحتاج عند ذكرها أن ترافقها صفات تحدِّد مجالاتها والشروط التي تحكمها. فمجال الديمقراطية ليس السياسة فقط وإنما الاقتصاد أيضاَ. الديمقراطية السياسية تعالج شرعية وأدوات بناء سلطة الحكم، من حكم منبثق من إرادة ورضى المواطنين إلى انتخابات حرة نزيهة ممثّلة لكلّ مكوّنات المجتمع إلى استقلالية وفصل للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى تشريعات تنظيم الحريات والعلاقات والمؤسسات. لكن الديمقراطية السياسية تحتاج أن تسير جنباً إلى جنب مع الديمقراطية الاقتصادية من توزيع عادل للثروة إلى مساواة في الفرص المعيشية إلى توفُّر الحدود المعيشية الدنيا لكل فرد لكي يعيش بكرامة ودون أيٍّ نوع من التهميش أو الإقصاء. إضافة إلى ذلك فإن الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية تحتاجان إلى شرط أساسي يحكم مسيرتهما، وهو شرط العدالة كمفهوم ديني عند البعض أو فلسفي أخلاقي عند البعض الآخر. السَّيرورة الديمقراطية التي لا تحكمها مفاهيم العدالة والإنصاف والقسط والميزان لا يمكن إلا أن تنحرف في النهاية وتتشوَّه. دعنا نأخذ مشهدين في عالمنا الحالي. ففي بلدان أمريكا الجنوبية التي ناضلت سنين طويلة ضدّ الدكتاتوريات وانتقلت إلى حدٍّ ما إلى الديمقراطية أدركت منذ البداية أن ديمقراطيتها السياسية يجب أن تصاحبها الديمقراطية الاقتصادية فحققت في بضع سنين، بنسب متفاوتة بالطبع، إنجازات مشهودة. لنقارن ذلك بدول الغرب الرأسمالية الرئيسية إن هذه الدول الديمقراطية العريقة ظلت عبر سنين طويلة تعطي اهتماماً كبيراً ومستمراً بالجانب السياسي من الديمقراطية، بينما ظلّ الاهتمام بالجانب الاقتصادي متذبذباً خاضعاً لمعطيات الظروف. هذا التّباين في المشهدين وفي النتيجتين يجب أن يعيه جيداً من سيحملون أمانة الحكم في مجتمعات ما بعد ثورات الربيع العربي. وإذا كان لا بد لشباب الثورات من أخذ دروس في الديمقراطية فليأخذوه من بعض دول أمريكا الجنوبية.