إنّهم أولئك الذين يعيشون لدعوتهم بكل مشاعرهم، فلا يهدأ لهم بال إلاّ حين يرونها منتصرة مستقرة, يؤلمهم أن ينال من صورتها أحد, أو يخدش من هيبتها إنسان. إنّهم الذين يحرصون على وحدتها وتماسكها, ويتمنون لها أن تعيش أجواء المحبة والأخوة, وأن تظهر على الدوام بأفضل صورة تعكس عظمة هذا الدين العظيم, الذي جاء بقيم التسامح والمودة والعدل والحرية والمساواة والنزاهة والشفافية, والرحمة التي وسعت كل شيء حتى الدابة حين ترفع قدمها خشية أن تؤذي وليدها. ضمير الدعوة هم أولئك الذين يحرصون أن يعيشوا للمعاني العظيمة التي تتسامى فوق كل الخلافات التي تنشئها الرغبة الجامحة في الثروة أو الزعامة أو المصلحة القريبة, هم الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة, هم الذين ينؤون عن المنافع حين يتهارش عليها المتهارشون, ويتألمون حين يرون القيم والأعراف والأعراض تنتهك بحجة الحرص على الصالح العام, هم الذين يحترقون حين يتطاول البعض على القيم والمعاني التي تربّوا عليها في محاضن دعوتهم المباركة, ويشفقون على دعوتهم حين تطلّ الفتن التي تموج كموج البحر, تحرّكها معان نتنة واصطفافات تافهة تنحت في صلب تماسكهم, وتنخر في عمق توحدهم وتوحيدهم. هم الذين لا يحملهم كره البعض على ظلمه, وإنّما يعدلون ولو كان المخطئ من ذوي القربى, إنّهم الربانيون الذين يمسكون بالكتاب ويتمسّكون به دون إفراط ولا تفريط, منهجهم العدل والتوسط، يشفقون من ذنوبهم أن تلحقهم بأهل البغي والفساد أو أن تسدّ أمامهم أبواب السماء، وأن تحول بينهم وبين التوبة والأوبة والعودة إلى الحق وعدم التمادي في الباطل. لا يرون لأنفسهم على أحد فضلا إن هم دُفعوا إلى الصفوف الأولى, وإنّما يعتبرون ذلك امتحانا لإيمانهم, وفرصة للتواضع وخفض الجناح والتفاني في خدمة إخوانهم ودعوتهم, ويلحّون في طلب العون من مولاهم أن يعينهم على حمل أماناتهم والوفاء بعهدهم. ويشفقون مِن تعاظُم مسؤوليتهم أمام ربهم يوم يسألون عن النقير والقطمير والعظيم والحقير من الأعمال والمسؤوليات. ضمير الدعوة هم الذين لا يتدافعون للوقوف في الأضواء وأمام الكاميرات والصفوف الأولى, ولا يكثرون الحديث في ما لم يحيطوا به علما, ويتمنون أن يجري الله الحق على ألسنة خصومهم قبل إخوانهم, هم الذين يستسقى بهم الغمام وتتنزّل عليهم الرحمات ويدفع الله بهم البلايا والمهمات والملمات ويحفظ الله بهم الأرض والناس أن تتنزّل عليهم الصواعق المهلكات, هم صمام الأمن للدنيا, وهم سبب محبة البقاء فيها والرغبة في طول الحياة, هم ركن الدين وأس الإيمان وحقائق الكون, بهم يرفع الله البلايا وينجي من الرزايا, ولولاهم ما طاب عيش ولا هدأ بال, ولكان بطن الأرض خير من ظهرها. ضمير الدعوة هم سر بقائها واستمرارها، ولولا هذه البقية الباقية منهم لمقت الله الأرض وما عليها ومن عليها, ولجعل عاليها سافلها ولأقام قيامتها. ضمير الدعوة هم الكبار الكبار, الذين لا يعرف قدرهم إلاّ من كان على شاكلتهم, أمّا المغرورون المتنافخون كبرا ويظنون أنّهم على شيء، فهولاء لا يعرفون إلاّ أنفسهم، وما أصغر تلك النفوس حين تفرغ من الإيمان وتمتلئ عجبا وكبرا.