لفت انتباهي تصريحان أو مقالتان في الصحف العربية عن الإسلام وحركات التغيير. أما المقالة الأولى فكتبها الأستاذ التونسي التسعيني محمد الطالبي، وهو يحمل فيها على «الشريعة» والدعوات لتطبيقها. أما المقالة الأخرى فكتبها الشاعر المعروف أدونيس في صحيفة «السفير» اللبنانية ووجهها للمعارضة السورية ولست أريد هنا العودة لمجادلة الطالبي الذي له تاريخ طويل في قول الشيء ونقيضه، ولا أدونيس الذي له تاريخ طويل في التنظير لكراهية الإسلام. بل ما أقصد إليه قراءة أصول وخلفيات هذه الحملة الجديدة على الإسلام وأهله بمناسبة اشتعال حركات التغيير العربية. فنحن نعرف أن الجدال نشب في وسائل الإعلام الغربية في الأسبوعين الأولين لاندلاع المظاهرات في تونس ومصر، وهل ينبغي تأييدها أو التوقف عن ذلك بسبب طابعها الأصولي واندساس الإرهابيين فيها. وقد ذكر ذلك بإلحاح الإعلام الرسمي في تونس ومصر، وساندهما في هذه «الاتهامات» بعض الدارسين الاستراتيجيين الغربيين، باعتبار أن التفكير الاسلامي هو المسيطر على المجتمعات العربية، ولذلك فإن الاحتجاجات لا بد أن تكون من أصل ديني، أو سوف تؤول لذلك رغم شعاراتها «المدنية» عن الحرية والكرامة والعدالة. إنما المعروف أن سائر السلطات الغربية حسمت أمرها لصالح نصرة الاحتجاجات في وجه السلطات، وظل هذا الخطاب الرسمي سائدا حتى الآن، ومن تونس ومصر وإلى ليبيا واليمن وسوريا. والواقع أن الحركات الدينية ما شاركت في الاحتجاجات والمظاهرات في تونس في الأسابيع الأولى، ولا في مصر في الأيام الأولى. وعندما شاركت بعد ذلك، تبنت الشعارات ذاتها التي حملها ويحملها الاحتجاجيون «المدنيون»، أي الحرية والكرامة والعدالة والدولة المدنية الديمقراطية! إنما بعد أربعة أشهر أو خمسة عادت بعض الأصوات لترتفع في الغرب وفي العالم العربي محذرة من إمكان سيطرة الإسلاميين على الانتخابات والأنظمة الجديدة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. كانت مجتمعاتنا مسلمة وهي ما تزال كذلك. وستظل أخلاقيات الإسلام الخاصة والعامة بالغة التأثير؛ إنما ليس على أساس الهوية الموتورة والمتوترة والنافية للآخر كما كان عليه الأمر من قبل. ولدينا مئات النماذج على ما نقصده. فالنقاش المشتعل على الساحة المصرية حول أولوية الانتخابات أو أولوية الدستور هو نقاش سياسي وأخلاقي في الوقت فسه، وهو ليس ذا طباع عقائدي ديني أو مصلحي؛ بل يدخل فيه الأمران. وقد كانت مدينة حماه السورية بين عامي 1980و1982 (عندما ارتكب نظام الرئيس حافظ الأسد مذبحة فيها) ذات توجه إخواني غلاب. والذين لم يكونوا من الإخوان قاتلوا معهم بسبب شراسة قوات النظام البعثي السائد. وقد خرج سائر الحمويين بمئات الألوف قبل أيام يدعون لإسقاط النظام، وهؤلاء هم أبناء الذين تمردوا عام 1982 وأحفادهم. والبحث الآن ليس عن عقائدهم ولا عن ثاراتهم بل عن شعاراتهم ومقاصدهم وسلوكهم. هم يريدون الحرية والعدالة والمشاركة. وقد حمل آباؤهم السلاح في وجه النظام عام 1982، والنظام ذاته ما يزال قائما، وقد استقدم دباباته وطائراته ومدفعيته مهددا بتكرار ما ارتكبه من قبل. وسقط من المتظاهرين بحماه بالفعل بضع مئات. إنما الفرق أن النظام وحده هو الذي يمارس القمع الآن، والحمويون يمارسون التظاهر السلمي، وما حمل أحد منهم سكينا. فالنظام لم يتغير، وإنما تغير الحمويون.إنهم الجمهور كله، وهم ما يزالون مسلمين بالطبع؛ لكنهم ليسوا حزبا ولا جماعة عقائدية؛ بل مواطنون يريدون استعادة إدارة شأنهم العام. وهم واثقون أنهم يستطيعون ذلك بقوة الجمهور وكثرته وإجماعه وليس بحمل السلاح. لقد تغير الموضوع، وتغيرت الأهداف، وتغيرت المفاهيم، وتغير الجمهور، فانقضى النظام لأنه صار نظام الزمن المنقضي! ماذا يريد محمد الطالبي، وماذا يريد أدونيس، وماذا يريد كل الذين يزعمون الآن أن الموضوع ما يزال صراعا بين الأصولية والتنوير؟! يريدون تجميد إنساننا ومجتمعاتنا عند النموذج الأوروبي للعلاقة بين الدين والمجتمع والدولة في القرن الثامن عشر الميلادي. وهو مثال ما عاد مقبولا ولا مطروحا في أوروبا ذاتها. ولذا فالواقع أن مثقفينا الكبار هم الجامدون وهم المتخلفون، وليس الجمهور العربي الذي خرج من الراديكاليات والاستقطابات والعنف المفروض والمفترض. فمجتمعاتنا مجتمعات تاريخية عريقة ومعاصرة في الوقت نفسه. وما عرفت صراعا بين الدين والدولة إلا في الجمهوريات الخالدة في العقود الخمسة الماضية. وهي الآن تتصالح مع نفسها ومع دولتها ومع العالم على طريقتها الخاصة، وهي الطريقة التي صارت خلال أشهر قليلة مثالا ونموذجا للعالم كله.