ألاحظ إقبالاً وتلهّفاً غريباً لدى الشباب على قراءة الكتب الفكرية، والتي يناقش بعضُها كثيراً من المسلمات الدينية، من أمثال كتب الجابري وعلي الوردي وأركون وغيرهم.. وحجّتهم في ذلك ضرورة التسلّح الفكري، ومعرفة ما عند الآخر..ولظنّهم أيضاً أنهم سيجدون لدى هؤلاء أشياء لم يجدوها لدى ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم من أعلام الإسلام ومفكريه الأصلاء في القديم والحديث..وفي ظني أن هذه الموجة هي ظاهرة غير صحيّة أبداً، يجب مكافحتها، وأطر النفس على تجنّبها، لدى فئة وترشيدها لدى فئة أخرى، ليس العمر وحده من يحدد هاتين الفئتين بل مقدار الوعي والطبيعة النفسية كذلك تعتبر محددات مهمة، فهي "أي هذه الموجة والصرعة الفكرية" باب ضلالة، وقد نُهي المسلم عن إلقاء نفسه إلى التهلكة "وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" البقرة : 195"، ومن أعظم الهَلًكة هَلَكة الدين، يقول ابن تيمية رحمه الله: "من تعرّض للفتن.. وكله الله إلى نفسه".. فلا يصح أن يعرّض المؤمن نفسه للفتن، ويدخل قلبه في اختبار قدرات عقدية، قد يخرج منه راسبا والعياذ بالله..بل إن من المطالب العظيمة التي يجب على المؤمن أن يشد يده عليها الحرص على نقاء التصور الديني، وعدم شوبه بغيره، وقد نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب عن قراءة ورقة لديه من التوارة وقد يُلمح في هذا النهي الحرص على نقاء العقيدة وعدم خدشها بما يجرحها. لا ينبغي تعريض القلب للفتن، "لقلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غلياناً"، ولا يظننّ ظان أن الضلالة تهجم على الإنسان دفعة واحدة، بل قد تستخدم سياسة النَفَس الطويل للفتك بعقيدة الإنسان، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ""تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً..""، وسُمّي السير في طريق الشيطان باتّباع "خطوات" الشيطان: "وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" "البقرة : 168"فهناك عرض للفتن وهناك خطوات، إذن فالضلالة تتوسّل بشعور الإنسان بالأمن من الإضلال فتدلف عليه من هذا الباب متوشّحة جلباب حب الإطلاع، أو العلم بالشيء خير من الجهل به، وما تزال تتجمّع حتى لا يستطيع القلب دفعها فتدفع به هي في وديان الضلال المبين.كانت الخواطر العقدية السيئة تخطر في قلوب الصحابة، فلم يكونوا يُفصحوا عنها، بل يقول أحدهم لأن أتحوّل إلى فحمة خير لي من أن أقولها، ويقول الآخر لأن أخرّ من السماء أحب إليّ من أن أبوح بها، مع أن الذي سيفصحون عن خواطرهم لديه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لوك الشبه العقدية ليس مما ترضاه فطر أهل الإيمان.. فكيف بالعكوف على كتاب قد جمع فيه مؤلفه أنواع الضلال، مع الاستدلال لها، وردّ ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..ومما يُلحق بكتب أهل الزيغ مقالاتهم التي يكتبونها في المنتديات والصحف وخواطرهم التي ينشرونها في صفحاتهم ومقاطعهم التي ينزلونها في بعض المواقع.. وقد كان نهج السلف رحمهم الله البعد عن أهل البدع، وعدم تعريض الناس لسماع أقوالهم، بل كانوا يطردونهم من مجالسهم، وكانوا يكبتون الأقوال الشاذة، والبدع المستحدثة بحصرها في أضيق نطاق، ومناقشتها عبر الكتب المتخصصة، وعدم بثها بين الناس، بل كان الفُضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول: "لو سألني أحدهم: أمؤمنٌ أنت ؟ ما كلّمته ما عشت"، يقول هذا في زمن انتشار فتنة القول بالإيمان، فتأمل أخي الحبيب كيف كان رحمه الله يقطع دابر الأقوال الشاذة بخنقها في صدور أصحابها، فلم يكن يأمن على نفسه ولا على من حوله من كثرة ترداد مثل هذه الأقوال والتساؤلات.. مع أنها مجرد تساؤلات.. فكيف بكتب تنثر الشبه كنثر الدقل، وتبرهن عليها؟ ولم يكن الفضيل بِدعاً من بقية علماء وسادة السلف عليهم رضوان الله..بل إن من حرص السلف الصالح على نقاء العقيدة ونقاء التصور، والبعد بالناس عن مواطن الإضلال أمرهم بالسكوت عن شيء من الدين، مما لا تبلغه بعض العقول، قال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة" .. فكان السلف يسكتون عن ذكر بعض صفات الرب سبحانه وتعالى إن كان في مجالسهم عامة الناس الذين لا يدركون مثل هذا الكلام، خشية أن ينكت الشيطان بها في قلوبهم نُكت الشُبه.. ويتحدثون بالكلام المشهور المعروف من أمور الدين. أصبح البعض يقبل على مثل هذه القراءات، بل يدعو إليها، فإذا ما نُصح في ذلك أتى بكلام يحمل مورّثات قبليّة، وكأن القضية من قضايا النخوة والشهامة ؟ من مثل: لسنا صغارا ؟ ونحن رجال وهم رجال! ومن أشد الكلمات التي تقال في هذا السياق كلمة صنعها الشيطان في معمله ثم نشرها في الآفاق تقول الكلمة: ليست عقيدتنا من الهشاشة حتى نخاف عليها كل هذا الخوف وهذا من قبيل الأمن من مكر الله، يُخشى على صاحب مثل هذه العبارات أن يبتليه الله في عقيدته، لأن السماوات والأرض لم تخلق إلا للعقيدة.. ثم يأتي صاحبنا ليعرض عقيدة في أسواق البدع والضلالات.. بحجة تماسكها وبأنها ليست هشة؟ وهذا الشيطان كان من قربه من الله يعبده في معية الملائكة فضلّ ضلالا بعيدا.. فهل كانت عقيدته هشة وهو يعبد الله في السماء ؟ أم أن الأمر أبعد من مسألة الهشاشة والتماسك.. إنها قضايا القلوب التي حيّرت وأذهلت وأشابت عباقرة الإسلام، حتى قالوا: ما أمن النفاق إلا منافق.