ربما لم يكن يخطر ببالنا ونحن في سنين الطفولة, حينما كنّا نشاهد المسلسلات المصرية التي لا يمكن أن يخلو واحدٌ منها من الحديث عن أزمة السكن وصعوبة توفير شقة الزوجية ومنزل العمر,أنّ هذه الأزمة ستكون كابوس حياة الفرد السعودي في هذه الأيام,وأنّ هذه المشكلة ستحرم كثيراً من أبناء الوطن من الإحساس بالأمان الحياتي الواجب توفره في الفرد الطبيعي في الدول المستقرة.فمهما كانت بلاغة التأويلات والتخريجات التي تريد التقليل من غرائبية هذه الأزمة في بلدٍ مثل السعودية,فلن يصدقها أحد. فلا المساحة الجغرافية تسمح بمثل هذه الأعذار ولا الكثافة السكانيّة تدعم هذه الحجج الواهية,ولذلك فالسبب الحقيقي لهذه الأزمة هو عملية النهب الممنهج والمنظم لأراضي الدولة طوال ثلاثة عقودٍ من الزمن,هذا النهب المنظّم الذي قام به بعض التجار والمتنفذين بمعاونة بعض الفاسدين في البلديات والمحاكم أمرٌ لا يمكن انكاره وهو السبب الرئيسي لهذه الأزمة,والأوامر الملكية الكريمة التي صدرت مؤخراً بخصوص مشكلة الإسكان ومحاولة حلها دليلٌ على ذلك,ومما يثبت هذا الأمر أنّ الأمير خالد الفيصل قد أعلن أنّ الدولة قد استرجعت مايقارب 300 مليون متر مربع قد تم الاسيلاء عليها بغير وجه حق في منطقة مكةالمكرمة وحدها. ومن هذا الرقم نستطيع أن نتبين حجم النهب المنظم والاستيلاء الممنهج على أراضي الدولة والتي هي في آخر الأمر من حق المواطن وليست من حق الفاسدين من التجار والمتنفذين والمسؤولين,وحين التجول في المدن السعودية سنجد ظاهرةً لا يوجد لها مثيلٌ في أي مكانٍ في العالم وهي ظاهرة الشبوك المترامية الأطراف والأسوار التي تحيط مساحاتٍ هائلةٍ من الأراضي البيضاء في قلب العمران. هذه الظاهرة الغريبة هي التي حولت الأرض من سلعةٍ ضروريةٍ -كما هو الحال الطبيعي في كل مكان في العالم- إلى سلعةٍ مضاربيةٍ تدهس في صعودها أحلام البسطاء وتضعف أواصر انتمائهم إلى مكانهم,وليس من المجدي أن نتحدث عن كيفية نهب هذه الأراضي ولا عن كيفية شرعنة هذا النهب وتقنينه بالصكوك الرسمية,فكل ذلك أصبح مما يعلمه الجميع ولا يحتاج إلى الشرح والتوضيح,فالمهم هنا هو معرفة حجم هذه المعضلة ومحاولة ايجاد الحلول الجذرية لها لكي لا تتضخم كرة الجليد,فليس معقولاً ولا مقبولاً أن يكون مايقرب من 70% من أبناء الوطن محرومين من حقهم الأصيل في تملك منزلٍ صغير في هذا الوطن القاري الفسيح.وليس مقبولاً أن نجامل تجار العقارات وهوامير التراب على حساب المواطن البسيط . ولمحاولة توضيح حجم هذه الأزمة فللقارئ الكريم أن يتخيل أنّه وفي منتصف الثمانينيات الميلادية كان متوسط قيمة الأرض السكنية يبلغ مايعادل ثمانية رواتب تقريبا لمتوسط دخل الفرد السعودي في حينها,كما كان الحصول على القرض العقاري يتم في نفس يوم تقديم الطلب أو في غضون أيامٍ قليلة كحدٍ أقصى,وللقارئ الكريم أن يصاب بالدهشة إذا علم أنّ نفس هذا المواطن الذي زاد دخله في العقود الماضية بما يقارب 20% سوف يحتاج إلى دفع مايقرب من ثمانين راتباً على مقياس متوسط دخل الفرد السعودي حالياً للحصول على أرضٍ سكنية. كما سيحتاج إلى عشرين سنة تقريباً ليحصل على القرض العقاري الذي لن يكفي -في ظل هذا الارتفاع الجنوني في تكاليف البناء- لبناء شيءٍ يمكن أن يطلق عليه منزلا,ولذلك فمن الواضح هنا أنّ طرفي هذه المعادلة لا يمكن الجمع بينهما,ففي الوقت الذي زاد متوسط الدخل بما يعادل الخمس فقد زادت تكلفة الأرض بما يعادل العشرة أضعاف وهذا أمرٌ لا يمكن منطقته أو شرحه.ولذلك فالحل الوحيد هنا هو أن يمد الله في أعمارنا بمقدار عشرة أضعافٍ لنتمكن من جمع قيمة أرضنا السكنية. ولكن ما يجعل باب الأمل مفتوحاً هو القرارات الملكية الأخيرة والتي جعلت من موضوع السكن قضيةً وطنيةً عاجلة,لا ينبغي التساهل فيها ولا التسويف في مباشرة معالجتها,وتشير المصادر إلى كثيرٍ من الصعوبات التي تواجه وزارة الإسكان في سعيها لتأمين الأراضي السكنية للبدء في تنفيذ مشاريعها بعد أن جاء القرار الملكي بتوفير التمويل لهذه المشاريع فوراً,وهذه الصعوبات ترجع كما ذكرنا في بداية المقال إلى عملية النهب المنظم لأراضي الدولة ,مما جعل كثيراً من الجهات الحكومية تشتكي من شح الأراضي وعدم توفرها للقيام بالمشاريع التي رصدت ميزانيتها,وهذا العجز من الوزارات الخدمية كالصحة والتعليم وغيرها فما بالنا بعجز المواطن البسيط,ولذلك ولكي تنجح القرارات الملكية بخصوص أزمة السكن فيجب فوراً القيام بالأمرين التاليين: الأول أن يتم استرجاع جميع أراضي الدولة التي استولى عليها بعض الناس بغير حق كائناً من كان هذا المستولي.وبعد تنفيذ هذا الأمر يتم تنفيذ الخطوة الثانية: وهي أن يتم فرض ضريبةٍ على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني وأن تكون هذه الضريبة كبيرة بما يضمن عدم الالتفاف عليها أو التساهل بها. هذا إذا أردنا أن نتعامل مع هذه الأزمة بشكلٍ واقعي وعادل,لكي يتفرغ الناس للبناء والتطوير والتنمية,ولكي لا يشعر المواطن بشيءٍ من الغربة في وطنه,لكل ذلك علينا أن نوقف ظاهرة الشبوك والنهب الممنهج والواضح لأراضي الدولة ولأحلام البسطاء. [email protected]