من بين المحاور المتعددة للحوار الهندو إسلامي، يبرز المحور الثيولوجي (العقائدي أو اللاهوتي) الأكثر إشكالية وتعقيدا، ولكنه يبقى، حسبما يؤكد المعنيون بالحوار الديني عامة، والحوار الهندو إسلامي خاصة، الأكثر أهمية وإلحاحا لإزالة الركام الذي خلفته الصراعات البينية نحو الآخر، والتي أدت بالواقع الهندي إلى غياب السلام الاجتماعي، وتحوله إلى ساحة قتال، أو توتر في أحسن الأحوال، مستمر. وقد عرض موقعا interfaith dialogue وglobal dialogue (على الرابط الموجود نهاية المقالة) لدراسة هامة، باللغة الإنجليزية، معنية بالحوار الهندو إسلامي باعتبار الطرفين يمثلان رافدا مهما في النموذج الحضاري الهندي كحل لمعضلة أرقت هذا النموذج على مدى ألفية كاملة، وبرزت كإحدى كبرى المشكلات المجتمعية، رغم وجود مشاكل أخرى ملحة على الساحة، كانتشار الفقر والمرض والأمية، في حقبة ما بعد الاستقلال. فصل الثيولوجي عن التاريخي والسياسي تعتمد الدراسة في بداياتها المنهجية الإقصائية، إذ تعدد المحاور التي ينبغي استبعادها من الحوار الهندو إسلامي على المستوى الثيولوجي قبل عرض المحاور الأساسية لموضوع الدراسة. ويبرز المحور التاريخي/ السياسي كأحد أبرز المحاور الإقصائية.فالذهنية الهندوسية على المستوى الثيولوجي لا بد أن تتجاوز التأطير لوجود المسلمين على أرض شبه القارة الهندية كغزاة محتلين، والذي يتبعه التأطير للعقيدة الإسلامية كعقيدة مادية تتعارض في خط مستقيم مع الروحانية الهندوسية، قبل ولوجها حجرات الحوار الديني. غير أن هذا لا ينفي بحال أهمية هكذا قضايا، والتي ينبغي، بل لا بد لها، أن تطرح في سياق حوار سياسي تاريخي (لا سيما أن التاريخ في شبه القارة الهندية، بحسب العديد من الدراسات، قد عانى إشكاليات كثيرة على مدى الألفية الأخيرة كالتحيزات واللاموضوعية بسب ما واجهه المؤرخون الهندوس من ضغوط لكتابة التاريخ من وجهة نظر هندوسية في الإطار الديني، ووجهة نظر هندية في الإطار القومي، ولم يختلف الحال كثيرا عند المؤرخين المسلمين الذين خضعوا للضغوط الدينية الإسلامية والقومية في باكستان وبنجلاديش، هذا بخلاف الدور البريطاني في طمس المعالم الحقيقية لتاريخ شبه القارة الهندية لأهداف إمبريالية). أما الحوار الثيولوجي فيتعلق ب "المباحث والقضايا ذات التأثير على إدراك كل من المسلمين والهندوس لعقائد الدين الآخر وتأثير هذه الإدراكات على الحياة اليومية لكلا الفصيلين". وتبدأ هذه المشكلات الإدراكية بأن الغالبية الغالبة من المسلمين ينظرون إلى الهندوس باعتبارهم وثنيين. وتمثل هذه النظرة معضلة كبرى في ديانة توحيدية صارمة مثل الإسلام تحرم التجسيد في مجالات الفن، وتعتبر صناعة وتبجيل الأيقونات والرموز من الشركيات. ولا يقف سجل الاتهامات ضد الهندوس عند حد الشرك والوثنية، بل بالكفر والجحود بالإله الخالق في العقائد اليهودية والمسيحية والإسلامية. وينبني على هذه النظرة الثيولوجية عبثية، بل وحرمة الحوار الديني البيني مع الهندوس بزعم أن الحوار لا يتم إلا مع قوم تربطهم بالمؤمنين علاقات المودة، ومن ثم تضييق دائرة التحاور لتقتصر على المؤمنين وحدهم. وفي هذا السياق تؤكد الدراسة أن جهود المسلمين في الحوار الديني البيني لم تكن كافية حتى مع أهل الكتاب أنفسهم، والذين تجمعهم بهم روابط تاريخية وثيولوجية، وتورد في ذلك تفسيرا، تصفه بالمتحيز، للمفكر الهندوسي "أ. توينبي"، والذي يؤكد فيه أن "الديانات الإبراهيمية الثلاث، والتي تنتمي إلى نفس الجذور التاريخية تميل دائما للحصرية وعدم التسامح، فضلا عن توجهها الدائم لتثبت لنفسها الصلاحية المطلقة... فالمسلمون الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الرسالة الخاتمة، قد نظروا إلى هذه الرسالة باعتبارها تحمل عوامل صلاح وإصلاح ذاتية، ومن ثم، لم يبدوا اهتماما تاريخيا بالحوار الثيولوجي أو الفلسفي مع أصحاب العقائد الأخرى، إلا في المجتمعات التعددية التي يشكل فيها المسلمون أقلية". كذلك يشير "توينبي" إلى أن "السياق التاريخي قبل بداية الحقبة الإمبريالية قد ساعد المسلمين على الإحساس بالاستعلاء الديني، الأمر الذي جعلهم غير مهتمين بالبحث في قضية طبيعة انتمائهم الديني المحض والانصراف عن ولاءاتهم القومية، مما كان له أكبر الأثر على أصحاب الديانات الأخرى في المجتمعات التي يعيشون بها". الانفتاحية القرآنية على الآخر غير أن الدراسة تؤكد أن القرآن الكريم يحفل بالآيات التي تدعو المسلمين للحوار مع أصحاب الديانات الأخرى، فالقرآن يؤكد أن الله قد خلق الإنسان، كل الإنسان، وكرمه، وعهد إلى المسلمين بتبليغ رسالة الإسلام إلى الناس كافة، كما أن القرآن الكريم هو خطاب إلهي إلى الناس جميعا، وليس خاصاً بالمسلمين وحدهم، والآيات التي تؤكد عالمية هذه الرسالة كثيرة. كذلك هنالك العديد من الآيات التي تدلل على أن عدل الله ورحمته يتسع للجميع، بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، هذا إضافة إلى ما يحويه القرآن بين دفتيه من الآيات التي تشير إلى أن تعدد الأديان هو في حقيقته سنة ربانية وركنا ركينا من "التصميم الهندسي الإلهي" للمجتمع البشري العالمي، وليس انقلابا على الواقع، وآيات أخر تؤكد على رفض الشريعة الإسلامية المطلق لمبادئ الإكراه الديني، (بل إن نفي الإكراه المادي والمعنوي يحمل معاني نفي الضغط الإغرائي للدخول في الإسلام جنبا إلى جنب مع معاني القسر والجبر، وهو بهذا يسمق بالحرية الإنسانية إلى آفاق أبعد من التي أرادتها المذاهب الهيومانية وطروحات الحداثة والتنوير، والتي، وإن نفت القهر والقسر، لم تنف الإغراء والإغواء)، وأن مهمة الرسول تنحصر في تبليغ رسالة الله إلى خلقه، وأن القرآن الكريم لم يأل جهدا في الدفاع عن التسامح الديني وقبول الآخر. والحقيقة أن الدراسة قد أفردت مساحة كبيرة لسرد هذه الآيات لا يتسع المقام لبسطها، ويمكن الرجوع إليها في نص الدراسة. وتعود الدراسة مرة أخرى إلى المنهجية الإقصائية التي بدأت بها في سياق العرض لبعد آخر هو الغرض الثيولوجي من الحوار الهندو إسلامي، حيث تؤكد أن العديد من الثيولوجيين يقعون في خطأ فادح عندما يجعلون "التماثلية الثيولوجية" على رأس قائمة أهداف الحوار الديني الثيولوجي. إن وضع هكذا أهداف من شأنه أن يوقع الحوار الديني في شراك الفشل قبل أن يبدأ؛ لأن الثيولوجية لا يمكن أن تقبل بمبادئ التماثلية أو الحل الوسط، التي يمكن أن ترتضيها أطراف الحوار الديني في مستويات أخرى، كالمستوى التاريخي والسياسي والاجتماعي أو حتى الفقهي. وتوضح الدراسة صعوبة هذا المبدأ بأن "الوثنيين الهندوس لن يتنازلوا عن بعض من آلهتهم المتعددة، والموحدين المسلمين لن يضيفوا إلى إلههم الواحد لتحدث هذه التماثلية" أو أن يصل الحوار إلى نقطة التلاقي. أما الصياغة الأكثر عمقا ووعيا لأهداف الحوار الثيولوجي فينبغي أن تكمن في "فهم التجربة الدينية للآخر" بعيداً عن آليات التحليل النقدي لطروحات الألوهية عنده، أو (كما أكدت خبرات الحوارات الدينية السابقة) الدمج بين العقيدتين في عقيدة واحدة. الحوار التحتي يسبق الحوار الفوقي وفي السياق نفسه، تؤكد الدراسة على وقوع عمليات استيعاب كبرى على المستوى الديني الثقافي في البيئة الهندو إسلامية. فإذا كان كلا الفصيلين يميلان للتعبير والتأكيد على الاستقلالية الذاتية، إلا أن الحقيقة التاريخية المجردة تؤكد أن الإسلام الهندي -على المستوى الشعبوي التحتي، يحمل الكثير من الملامح الهندوسية، وأن العديد من الهندوس، على نفس المستوى، قد استوعبوا الكثير من النموذج الإسلامي. وفي السياق الاجتماعي نفسه تبرز قضية المرأة في الإسلام والهندوسية كمحور تقريبي هام في الحوار الهندو إسلامي، بل تمضي الدراسة أبعد من ذلك لتؤكد على ضرورة حوار نسائي تضطلع به الحركة النسائية، والمعنيون بحقوق المرأة في الإسلام والهندوسية. أما الحيثية الأبرز لهذا الحوار فتتأتى من الدونية الاجتماعية التي تتجرعها المرأة الهندية، والتي يتم التأصيل لها دينيا بمنهجية تعسفية. إن المسلمين والهندوس الذين تجمعهم أرض الأساطير القديمة ويتحدثون نفس اللغة وينتمون إلى نفس النموذج الحضاري العتيق ويتشاركون القيم المترسخة ذاتها يشعرون بالغربة في وطنهم بعد أن استحال الغيتو الديني إلى منفى اجتماعي، ولكن يبقى المنفى فرصة في ذاته لخلق حالة حوارية، ويظل الشعور العميق بالتشرذم والانعزالية محضا خصبا لدوافع الاندماج والإثراء لا سيما عبر بوابات الثيولوجيا الانفتاحية لواحدتين من أكبر العقائد الروحانية في التاريخ الإنساني عامة وفي النموذج الهندي خاصة.