نعيش قرننا الحالي الذي تتسارع فيه الخطوات وتتسابق فيه نتائج الأفكار والسلوك، وهذا يتطلب منّا أن نكون متصالحين أولاً مع أنفسنا وبيئتنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه. فالشخص السوي هو الذي يستطيع التسامح مع نفسه وأن يتحكم في سلوكه في كل وقت، وأن يتنازل عن لذّاته القوية في سبيل ثواب آجل أبعد أثراً وأكثر دواماً، فهو لديه قدرة على ضبط نفسه وإدراك عواقب الأمور لأنه بصراحة يستطيع أن يستحضر في ذهنه جميع النتائج التي يُحتمل أن تترتب على أفعاله مستقبلاً. فهو من وجهة نظري يستطيع بكل كفاءة أن يبني سلوكه وتصرفاته لحظة بلحظة. هو يصنعها ويرسمها على أساس ما يتوقعه من نجاح في المستقبل البعيد. إذاً في حقيقة الأمر هو قادر على موازنة الأمور ونتائجها قبل فعلها، وإن هناك معادلة تقول: أنه كلما زادت القدرة على ضبط النفس كلما قلت الحاجة إلى التحكم الصادر من سلطة أخرى خارجية وهو ما نسميه بالنصيحة أو التوجيه؛ فالشخص السوي من وجهة نظري أيضاً يرفض في أحيان كثيرة أن ينصاع مع المألوف على شريطة أن يكون مقتنعاً مع نفسه بأن الأوضاع التي يرفضها هي أوضاع غير عادلة، وأن هناك أوضاع كثيرة أعمُّ وأشمل منها يمكن أن تحقق له الهدف الذي يسعى إليه. بالطبع هذا يتطلب من الإنسان أن يكون أميناً مع نفسه وجماعته، فالإنسان المتصالح مع نفسه ينظر إلى الأمام ويقدّر نتائج فعله قبل أن يقدم عليها. وهو يعتبر نفسه مسؤولاً عن أعماله. أما إذا كان الإنسان مستسلم لأي شرط ويقبل بظلم الآخرين واستبدادهم وتحكمهم في مسيرته ومصير حياته حتى يصبح كما يُقال (إمّعة) لذا نجده يعاني عدم الثقة بالنفس وعدم تقدير الذات إلى درجة أنه يتحول إلى ممسحة أرجل تدوسها كل الأقدام. فهو إذاً لم تسمع له صوتاً ولا رأياً ولا فعلاً ولا قولاً إلى درجة أنه يُلبي حاجات الآخرين على حساب حاجته ورغبته الشخصية، تجده مطيع لأوامر الآخرين دون طلب التعليل أو التحليل لما يؤمر به. نحن لا نطلب منه أن ينتمي إلى جبهة الرفض أو احترام الغير ولا أن يأخذ سياسة المواجهة والتحدي أو الوقاحة، لكن المطلوب باختصار هو احترام النفس قبل كل شيء واحترام الآخرين، فالاحترام المتبادل تقوم عليه العلاقات المثمرة البنّاءة، وهنا نسأل أنفسنا.. هل نحن من النوع الهانئ الرضي الذي يقبل الأمور بسهولة أم من النوع الرافض للحقيقة والواقع؟َ يقول الفيلسوف اليوناني "سقراط" (إعرف نفسك).. هل سألت من أنا في يوم من الأيام؟ ومن أكون؟ لاشك أن الإجابة على هذه الأسئلة تساعدك على اكتشاف الذات ومعرفة النفس. ويتضح لنا إلى أي درجة نحن صريحين ومتمسكين بالصراحة حتى ولو كانت الحقيقة محرجة! هذا بالطبع ينطبق على الشخصية البلطجية التي لم تكن متصالحة مع نفسها في يوم من الأيام أو صادقة مع ذاتها أو تفكر في عواقب أفعالها، هذه الشخصية تدار من غيرها وتُحرك بدون رغبة لكنها تستجيب لدوافع قمعية، وهناك المرتزقة الذين يتحركون بواسطة الغير ولا يفكرون في عواقب أمرهم. وهناك آخرون يعيشون أدباً جمّاً وخجلاً متحكماً في سلوكهم وتبعية منقطعة النظير لمن هم أكبر منهم منصباً أو سنّاً أو خبرة وهذه كثيراً ما نراها اليوم في مجتمعنا المتحضّر، فتبعية الموظف لرئيسه وتبعية الصديق لصديقه وأحياناً تبعية الأخ الأصغر للأكبر. أما اليوم ولله الحمد أصبح كثيراً من أبنائنا يطالبون بأن نعلل لهم سبب رفضنا لخروجهم أو أسباب نهينا لهم عن أي أمرٍ وهذه الظاهرة صحية في ذاتها، نودّ من أبنائنا ومعلمينا تعزيزها في نفوسهم والتأكيد على زرع الثقة والمحبة والصراحة والتسامح مع النفس من خلال رؤية الفرد لنفسه وكرامته وانطباعاته عن نفسه وعن الآخرين له. فكلما كانت فكرة الإنسان عن نفسه جيدة كانت عطاءاته متميزة ومتسابقة وتصرفاته محكومة بسلوك منضبط. مما تقدم كانت التربية عامل هام في نشأة الأجيال، فالصحة النفسية السليمة للإنسان تتطلب منا أن نكون حذرين في استخدام أساليب الثواب والعقاب والتعزيز والتدعيم في كل خطواتها وأهم من هذا وذاك هو التأكيد على معرفة الإنسان لنفسه من خلال رغباته وقدراته وأن يكون طموحه متساوياً مع قدراته.