يبدو أن الأديب الكبير محمد صادق دياب أخذ على عاتقه نزع مدينته الأنثى من أمواج النسيان التي لها القدرة على طرد الأماكن والأشخاص من حديث الناس وأمسيات سمرهم . نعم لم يعد بمقدور النسيان أن يفتح ذراعيه في وجه المدينة الطافية على عرق الرجال وأجنحة النوارس ، فلقد اكتملت رواية جدة ودونت بين صفحاتها تاريخا امتد طويلا وحفظت وجوها وأسماء كادت أن تنهار كما انهار سور المدينة العتيق . في (مقام حجاز) حملنا الدياب بكل أناقة وخفة وعاد بنا لما يقرب من نصف قرن .. مبتدئا بتزاوج الصحراء والبحر ومولد المدينة التي عرفها شبرا شبرا وعشق رائحتها ، وملوحة أرضها كما عشقت هي عرقه وصبره. أبحر بنا الأديب في مركبه السردي البديع وعبر بنا الأيام وهو يشير بأصبعه نحو التاريخ ، والبوابات ، وكتائب المظلومين الذين تفننوا في رسم جدة والرواشن والبخور . وبرغم حزنه عليهم إلا أنه تجول معهم بكل صدق وقدم لهم نياشين الإنصاف . هذه الرواية من وجهة نظري تجاوزت الحشو المتعب للنظر ، وتخطت الرقص على الرمزية وقدمت لنا مدينة تحكي بطولات أبنائها وأزقتها وتعبها ضد الظلم والجبروت. أستطيع القول إن الكاتب الجميل كسب الرهان وأعاد أبطاله للحياة وكأنه يعرفنا بهم من خلف ستار روائي لا صخب فيه .. فهذا دحمان ، وسلمى الجبالي ، وعبدالله سمكري ، والقهوجي ، وبا كردس ، والحداد ، والجدة حربية ... وغيرهم من رواد بحر جدة وحاراتها يعودون للحياة بعد تخطي الزمن لهم . في مقدمة الرواية قالت جدة : إن المدن تصمت ولكنها لا تنسى .. ومع ذلك حكت لنا بعد طول صمت قصة الهجير والبحر ، ورسمت لنا أشرعة مطرزة بالنصر . لقد توج الأديب محمد دياب نفسه بهذا العمل الروائي كعاشق بار لمدينة ألفت الدفء والتقاء السمر ، مع أنه حرك شوقنا لعمل أظنه سيرى النور هو أيضا يحمل بين طياته حارات مدينته الأنثى وزواريبها. [email protected]